أحزاب جديدة تظهر، وأخرى قديمة تموت، وثالثة تدخل نفق التجميد، ورابعة تحاول إنقاذ نفسها عبر الاندماج أو التحالف مع غيرها. نحن إذن أمام مرجل حزبى كبير يغلى ليخرج لنا فى النهاية طبخة جديدة، تمثل خريطة مختلفة للأحزاب السياسية المصرية قبل الانتخابات البرلمانية المقبلة. حركة الاندماجات بدت تعبيرا عن الخوف من تكرار الهزيمة فى الانتخابات النيابية المقبلة فى مواجهة التيار الإسلامى، ولذا كانت تحركات الاندماج والائتلاف تبدو عشوائية فى البداية لا يربطها رابط سياسى أو فكرى اللهم إلا التوحد لمجابهة الإخوان والسلفيين، لكن هذه التحركات تسير الآن فى طرق أكثر رشدا عبر البحث عن المشترك السياسى، فالأحزاب الناصرية تسعى للاندماج فى إطار واحد، وقوى يسارية أخرى تسعى للاندماج تحت مظلة واحدة، وقوى ليبرالية تتحرك لخلق كيان قوى، وقد نشهد مسعى للتحالف الانتخابى بين هذه القوى الليبرالية واليسارية لمواجهة الإسلاميين فى الانتخابات يقوم على برنامج الحد الأدنى. فى المقابل هناك أحزاب تختفى من الخريطة، لم يبق منها إلا رؤساؤها، وأحزاب دخلت دوامة الصراعات والتجميد، وثالثة تكافح للحصول على رخصة بالعمل القانونى. بدأت الحياة الحزبية فى مصر مبكرا بتأسيس الحزب الوطنى فى العام 1907 على يد الزعيم مصطفى كامل، وتلاه حزبا الأمة والوفد، ثم تكونت عشرات الأحزاب الصغيرة التى ساهمت فى تشويه الحياة الحزبية لاحقا، لكن هذه التجربة الحزبية الأولى سرعان ما أنهتها ثورة يوليو 1952 ليحل محلها التنظيم الواحد الذى بدأ بالاتحاد القومى ثم الاتحاد الاشتراكى. بدأت التجربة الحزبية الثانية فى مصر بما سمى بالمنابر فى 1976، تمت بثلاثة منابر تمثل اليمين واليسار والوسط، تحولت لاحقا إلى أحزاب هى الأحرار(يمين) والتجمع (يسار) ومصر العربى الاشتراكى (وسط)، وهو الذى تحول إلى الحزب الوطنى لاحقا، وإلى جانب الأحزاب الثلاثة ظهر حزبا العمل والوفد، ثم شهدت التسعينات موجة حزبية كبيرة أوصلت العدد إلى 23 حزبا، معظمها لم يتعد دوره استئجار مقر أو إصدار صحيفة، وطوال تلك التجربة الحزبية الثانية ظل الحزب الوطنى هو المهيمن على الحياة السياسية حتى قيام ثورة يناير. بعد ثورة 25 يناير حدث انفجار حزبى نتيجة تيسير شروط التأسيس، وتجاوزت الأحزاب المرخصة الستين حزبا حتى الآن، وهو أمر طبيعى بعد ثورة كبرى، ويشبه ما حدث فى اليابان بعد الحرب العالمية الثانية، وفى العراق بعد إنهاء حكم صدام، وفى دول أمريكا اللاتينية. وإذا كان هذا العدد مبررا فى المرحلة الانتقالية حيث تتبلور الاتجاهات والأفكار والزعامات، فإنه يمثل عبئا على استقرار الحياة السياسية فى مصر، ومن هنا أهمية التحرك للاندماجات والائتلافات بحيث لا يزيد العدد على أربعة أو خمسة أحزاب تمثل الاتجاهات الأساسية، تسهيلا على الناخب البسيط. ما يجرى فى الساحة حاليا من اندماجات وائتلافات يسير فى الطريق الصحيح، خاصة بعد انتقال هذه العمليات من مجرد الائتلاف الفضفاض الذى لا يجمعه جامع إلا العداء للإسلاميين، إلى الائتلافات السياسية التى يجمعها برنامج سياسى واقتصادى مشترك. لكن ما يحدث فى حزب النور من صراعات حاليا يمثل ضربة مبكرة للتجربة الحزبية بعد ثورة 25 يناير، ذلك أننا نتحدث عن ثانى أكبر الأحزاب المصرية حاليا، الذى كان مرشحا ليكون من بين الأحزاب الخمسة الأساسية التى ينبغى أن تقوم عليها حياتنا الحزبية المستدامة. التفاعلات التى تتم الآن فى الحياة الحزبية هى تفاعلات طبيعية، لا دخل للسلطات بها، كما كان الحال قبل 25 يناير، ولذلك نتوقع أن تثمر هذه التفاعلات خريطة واقعية للمجتمع المصرى.