طبعاً، لا يتوقع أحد أن تصدر منظمة «هيومان رايتس ووتش» تقريراً يدين انتهاكات حقوق الإنسان فى أحداث فيرجسون الأمريكية كتلك التى لا تتوانى عن إصدارها فى كل كبيرة وصغيرة بمصر ودول أخرى. وكذلك لن تفعل منظمة دولية أخرى من أخواتها المنظمات المشبوهة المشابهة لها. فقد اهتمت «هيومان رايتس» جداً بإصدار تقرير فى ذكرى -مجرد ذكرى- فض اعتصام «رابعة» لإدانة انتهاك حقوق الإنسان أثناء الفض، ولم تتطرق لانتهاك حقوق الإنسان داخل الاعتصام نفسه، فهى منظمة موجهة، وأفرغت كلمة حقوق الإنسان من مضمونها، وحولتها إلى مجرد تجارة رخيصة. وهذه المنظمة التى أنشئت عام 1978 بنيويورك وتخصصت فى رصد انتهاكات حقوق الإنسان بدول المعسكر الشرقى، تحولت لباقى مناطق العالم بعد انهيار الاتحاد السوفيتى، وأصبح لها 4 أهداف رئيسية، أولها الدفاع عن حرية الرأى والتعبير، وثانيها السعى لإقامة العدل والمساواة وبناء مجتمع مدنى قوى، وثالثها محاسبة الحكومات التى تنتهك حقوق الإنسان، ورابعها السعى لكسب التأييد الدولى لتعزيز حقوق الإنسان. والمعلن فى سياسة المنظمة عن تمويلها أنها تتلقى التبرعات من المؤسسات الخاصة والأفراد، ولكن الثابت أنها تتلقى أيضاً تمويلاً وتعليمات من المخابرات المركزية الأمريكية. وما حدث فى فيرجسون بولاية ميزورى الأمريكية خلال الأيام الماضية فضح تلك المنظمة المشبوهة وأخواتها ولم يعد يصدق تقاريرها إلا ساذج أو مستفيد، فقد قتلت الشرطة الأمريكية شاباً أسود يدعى ميشيل براون، وهو ما فجر مشاعر غضب طبيعية ومشروعة لدى المواطنين الأمريكيين الذين عاشوا فى الولاياتالمتحدة لتحقيق حلم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وقد كان هؤلاء المواطنون، خاصة السود منهم، يظنون أن قضية التمييز العنصرى التى صاحبت إنشاء الولاياتالمتحدةالأمريكية قد انتهت منذ ستينات القرن الماضى، فإذا بهذا الحادث يعيد أوجاع الآباء والأجداد لأذهان الأبناء والأحفاد، فخرج المواطنون الأمريكيون للتظاهر احتجاجاً على هذا التمييز العنصرى الممجوج. ورغم أن الحادث يعد قضية تمييز عنصرى واضحة المعالم ومكتملة الأركان، ورغم أنها تتناقض تماماً مع المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، فإن منظمة هيومان رايتس ووتش لم تنتقد هذا التمييز العنصرى وهو ما يعد من صميم عملها وأحد أهم أهدافها وهو تحقيق العدل والمساواة. وكما لم تلتفت المنظمة لمقتل الشاب ميشيل براون، لم تلتفت أيضاً لمقتل متظاهر آخر يوم الثلاثاء الماضى وقف حاملاً سكيناً على بعد أمتار من رجال الشرطة ويقول لهم «هيا اقتلونى كما قتلتم براون»، فاعتبروا هذا استفزازاً لهم فردوا عليه برصاصة أفقدته حياته، ولم يتبعوا قواعد الاشتباك المعروفة فى العالم بالضرب فى الهواء فإن لم يستجب فالضرب فى الأرجل فإن لم يستجب فالضرب فى الصدر، ولكن الشرطة الأمريكية قتلته فوراً فى رد أعنف مما يتصور أى مواطن فى أى مجتمع محدود الديمقراطية، وليس فى الولاياتالمتحدة التى كنا نراها أعتى ديمقراطيات العالم، وكنا نتمنى أن تصبح لنا ديمقراطية كالتى تطبقها. وقد تابع العالم كله -إلا منظمة هيومان رايتس وأخواتها- مشاهد العنف الصريحة ضد المتظاهرين من الرجال والنساء على حد سواء، رغم أن تلك المشاهد تعكس قمة الانتهاك لحقوق الإنسان التى قامت من أجلها تلك المنظمة. وكان المشهد الأسوأ فى سلسلة التجاهل المتعمد من «هيومان رايتس وأخواتها»، غض الطرف نهائياً عن اعتقال 3 صحفيين أثناء تغطيتهم للأحداث فى فيرجسون، وهم المصور الصحفى سكوت أولسون، والصحفيان الألمانيان إنسجار جراو وفرانك هيرمان، وقد دفعت الجنسية الأوروبية للصحفيين منظمة الأمن والتعاون الأوروبى لإدانة فرض قيود على الإعلام أثناء تغطية الأحداث، ودعت لإجراء مراجعة شاملة لضمان أمن الصحفيين أثناء تغطية الأحداث داخل الولاياتالمتحدةالأمريكية، ولكن «هيومان رايتس ووتش» لم تلتفت أبداً لهذا الحادث الكبير الذى يتعارض مع حرية الرأى والتعبير رغم أن أهم أهدافها هو ضمان حرية الرأى والتعبير!! ليس لدى أى متابع فى العالم أدنى شك بأن الولاياتالمتحدة استخدمت أقصى درجات العنف فى التعامل مع المتظاهرين الأمريكيين الذين خرجوا للتعبير عن رأيهم، وأن هناك انتهاكات جسيمة مورست من قبل السلطات الأمريكية فى مواجهة المتظاهرين، وأن الإدارة الأمريكية التى ارتكبت هذه الانتهاكات هى نفسها التى تسمح لنفسها بأن تصدر تقريراً سنوياً عن حالة حقوق الإنسان فى العالم وتستخدمه كوسيلة تهديد ضد بعض الدول ومنها مصر، فهل تجرؤ الخارجية الأمريكية فى تقريرها المقبل أن تدرج تلك الانتهاكات الأخيرة فى فيرجسون؟ لقد كشفت الأحداث الأخيرة أن حقوق الإنسان -على نبل اللفظ- تحولت على يد الولاياتالمتحدة إلى تجارة تستهدف فقط تحقيق أهداف سياسية، وكل الاختبارات التى شاهدناها وتابعناها جميعاً فى فيرجسون وقبلها فى «وول ستريت» عام 2011 تؤكد أن ديمقراطية الولاياتالمتحدة شكلية، وأنها تسقط فى كل الامتحانات المشابهة، فقد سمحت لنفسها أن تدمر دولتين -أفغانستانوالعراق- من أجل حرب زائفة على الإرهاب قتلت خلالهما مئات الآلاف من الأبرياء، وتواصل حربها فى العراق وسوريا وليبيا ولكن هذه المرة لدعم الإرهاب، فلم نسمع كلمة واحدة رسمية أو حتى من «هيومان رايتس ووتش» تدين تكوين ميليشيات إرهابية على حدود مصر الغربية فى ليبيا. هى فقط تهتم بفض اعتصام «رابعة»، وكلنا نعلم أن تقريرها لم يكن من أجل حقوق الإنسان، كما كانت كل تقاريرها السابقة.