قال أحد أعضاء البرلمان (شُهر بأنه رفع الأذان أثناء انعقاد جلسة للمجلس، ولم يتوقف عنه رغم تنبيه رئيس المجلس إلى أن رفع الأذان ليس فى مكانه، وأنه يوجد مسجد أو مصلّى خارج القاعة، واستمر فى رفع الأذان حتى انتهى منه). قال العضو هذا: إن الشعب المصرى مش متربى وحشاش. وهذا تعميم لا أساس له، فضلاً عن أن البعض قد يرى أنه لم يكن يجب أن يصدر هذا الاتهام السافر من عضو فى مجلس الشعب يفخر طوال الوقت، بمناسبة وبغير مناسبة، بأنه منتخب من الشعب (الذى عمّم العضو اتهامه له بأنه مش متربى وحشاش)، وهو اتهام قد يطال - ولو أدبياً - شرعيته هو مادام الذى انتخبه «شعب مش متربى وحشاش». بعد ثورة 1919، والَى الشعب تثقيف نفسه، واستعمال الكلام الطيب، والتصرف بأسلوب مهذب. وقام بهذا، عبر المدارس والأغانى والسينما والصحافة والتعامل الاجتماعى. ففى 1930، افتتح الملك فؤاد معهد الموسيقى العربية، وغنى فى حفل الافتتاح محمد عبدالوهاب أغنية «فى الليل لما خلى» من كلمات أحمد شوقى. وفى الوقت ذاته كانت أم كلثوم تغنى أغنية «الصبّ تفضحه عيونه - وتنمّ عن وجد جفونه». وبعد ذلك لحن وغنى عبدالوهاب أغنيتى الكرنك والجندول وغيرهما، مما كان يفيد أن الشعب الذى يغنى له أصبح يستوعب معانى القصائد. وواكب ذلك غناء أم كلثوم لقصائد شوقى وغيره. مثل أغنية سلو قلبى، وأراك عصى الدمع، وغيرهما. وكانت الأفلام السينمائية مدارس، من يشاهدها ويرى فيها فيلماً يتعلم اللياقة فى الحديث والشياكة فى التصرف، وعدم التخاطب بنبوّ الألفاظ أو ببذاءة التصرفات. وكانت المدارس مدارس حقاً هى التى قال فيها أمير الشعراء شوقى: «بيوت منزهة كالعتيق». فقد كانت المدارس أيامها معابد كالمعبد العتيق فى تقديره. واستمر هذا الخط الحضارى يتصاعد إلى أن قوضه عنصران. فمنذ عام 1928 تنخرت فى عظام مصر حركة بدوية، لا تقدم فكراً ولا فقهاً، وإنما تُحطّم كل القواعد المستقرة مدنياً وحضارياً فى المجتمع المصرى، زعماً بأنها محاكاة لاتجاه غربى، وتنشر بدلا منه تصرفات وألفاظا وتعبيرات بدوية؛ وظل النخر يجرى ويعمل أثره حتى قاله أحد الذين هم مسئولون عن انحطاط الشعب وصيرورته فاقد التربية. وفى عام 1952 وقع انقلاب عسكرى سُمّى ثورة الجيش. وعملاً بفتوى أطلقها أستاذ للقانون فقد خرج الانقلابيون على كل القوانين، وعن كل الأعراف، وقلبوا الموازين، فصارت الغوغائية تبسيطاً فى الخطاب الشعبى، والسوقية تخفيفاً فى العمل الرسمى والشعبى. وبدأ استعمال الألفاظ المُشينة يسرى شيئاً فشيئاً فى أوصال المجتمع، خاصة مع سقوط دور المدارس، وضعف العمل السينمائى (إلا قليلاً)، وظهور أغانٍ مبتذلة مثل «السح الدح إمبو، الهانص فى الدانص». وفى رواية لنجيب محفوظ بيّن سبب اتجاه الشعب أو قسم كبير منه، إلى تعاطى الحشيش، كيما ينسوا بالتخدير كل ما يصادفونه من تكدير؛ وكى يستطيعوا قبول اللامعقول الذى يعيشون فيه. ولا صلاح لذلك إلا إذا انعقد العزم بقوة وعمل المجتمع كله بجهد، على استعادة القيم المصرية الأصيلة، والوسطية الدينية السديدة، والسلام الاجتماعى الصحيح. فى كتاب الموتى لقدماء المصريين، أن المتوفى يذهب عقب وفاته إلى محكمة الموتى التى يرأسها أوزير / إدريس (يسر ابن مصر) ومعه 99 قاضياً. وفيما يسمى بالاعتراف السلبى، أى نفى روح المتوفى أى أعمال غير صحيحة تكون قد صدرت منه فى الحياة الدنيا يقول فيه اعترافا نجتزئ منه أول ثلاثة فيه: لم أشرك بالله، ولم «أوذى» مخلوقاً، ولم أتعدّ حدودى. فعدم تعدى الشخص حدوده يعنى معرفة كونية بحقيقته وحقيقة كل من حوله. ولو أخذنا هذه الفكرة القيمة «ولم أتعد حدودى» وزرعناها منذ الطفولة فى كل نفس، وسار بها المجتمع دون أى استثناء، لكان فى ذلك خلاص للمجتمع من كل شر وسلام له من أى سوء.