تأسست الدولة الفاطمية فى مصر بعد سقوط الدولة الإخشيدية (358ه)، وقد دخل المعز لدين الله الفاطمى مصر بعد أن نجح قائده «جوهر الصقلى» فى فتحها بعد عدة محاولات سابقة باءت بالفشل، والقائد «جوهر» هو بانى مدينة القاهرة التى أصبحت مركز الخلافة الفاطمية. وبدخول الفاطميين بدأ مذهب التشيع فى الظهور فى مصر، وأُذِّن فى المساجد «حى على خير العمل»، وعلت أصوات الفاطميين لتجهر بأفضلية على بن أبى طالب، والصلاة عليه وعلى ولديه الحسن والحسين وفاطمة رضى الله عنهم. وقد حاول «المعز» أن يظهر الصلاح والعدل للمصريين، وأكد فى أول خطبة خطبها فيهم أنه جاء لإقامة العدل ورفع الظلم عنهم. ولعب القائد العسكرى «جوهر الصقلى» دوراً مركزياً فى تأسيس الخلافة الفاطمية، وهو بانى الجامع الأزهر الذى أنشئ كمدرسة لتعليم الفقه الشيعى. وبعد أن دانت ل«المعز» الأمور فى مصر سعى إلى استخلاص دمشق من «القرامطة» ونجح فى ذلك، وأمََّر عليهم «ظالم بن موهوب». كان «المعز» والفاطميون يعتمدون على الدعاية بشكل كبير، وقد سبق دخول جوهر الصقلى إلى القاهرة وفود العديد من الدعاة الفاطميين الذين اجتهدوا فى الدعوة السرية للمذهب الشيعى بين المصريين، وقد وجدوا استجابة لدى البعض ورفضاً لدى آخرين، وعندما دخل الفاطميون مصر رسمياً بدأوا حملة دعاية أكبر من داخل المساجد الكبرى لنشر التشيع، وبدأوا يؤثرون الفقهاء والقضاة الشيعة بالمناصب والمكاسب والمغانم، وأخذوا فى الاحتفال بأعيادهم وشعائرهم المخالفة لأهل السنة، مثل الاحتفال بذكرى استشهاد الحسين فى كربلاء والاحتفال بعيد الغدير. وعندما بدأ المصريون «السنة» مقاومة انتشار التشيع الفاطمى فى أوساطهم من خلال الاحتفال ببعض الأحداث السنية، مثل ذكرى دخول النبى -صلى الله وعليه وسلم- وأبى بكر إلى غار «ثور» أثناء الهجرة، سكت عنهم الفاطميون حتى لا يثيروا غضبهم. ومثلما استخدم «المعز» الدعاية السياسية بادر العباسيون إلى توظيف الدعاية المضادة لتقويض أركان ملكه، من خلال التأكيد على أن الفاطميين لا ينتمون إلى البيت العلوى، وأنهم مجرد مجموعة من المغامرين الأدعياء، وهو أمر اختُلف عليه تاريخياً، فهناك من سانده وهناك من دحضه. ويسوق البعض قصة طريفة تحكى الكيفية التى رد بها «المعز» على موضوع حسبه ونسبه، تقول إنه خرج على المصريين بالسيف فى يد والذهب فى أخرى، وردد عبارته المشهورة وهو يشير إليهما: «هذا حسبى وهذا نسبى»، وهى العبارة التى جرت فيما بعد مجرى المثل «سيف المعز وذهبه»! بسبب دقة تعبيرها عن النظرية التى يفضل الحكام التعامل بها مع الشعوب بالترهيب (السيف) والترغيب (الذهب)، وهى النظرية التى تلخصها سياسة «العصا والجزرة». وقد تراجع هذا المسلك المتوازن فى التعامل مع المصريين كثيراً بعد وفاة «المعز» وتولى ابنه العزيز بالله الخلافة، فقد كان أكثر تعصباً لمذهبه وفرض على القضاة إصدار أحكامهم وفقاً للمذهب الإسماعيلى، وأصبح مطلوباً من الموظفين الاسترشاد بأحكام هذا المذهب، الأمر الذى دفع بعضهم إلى اعتناق المذهب الشيعى الإسماعيلى، وفى المقابل من هؤلاء حرص آخرون على التمسك بمذهبهم السنى، ساعدهم على ذلك تسامح بعض الخلفاء الفاطميين، لم يكن من بينهم بحال «العزيز بالله»، الذى تميز بانحيازه الشديد لمذهبه الإسماعيلى وقام بتهميش المصريين السنة بصورة كبيرة، ونكاية فى عدم تشيعهم استعان بأهل الذمة من اليهود والنصارى فى المناصب العليا، وأظهر تسامحاً كبيراً معهم فازداد نفوذهم، وبرز فى عصره من اليهود «ميشا بن إبراهيم»، ومن النصارى «عيسى بن نسطورس»، وقد استاء المصريون من حالة التهميش تلك واعتماد «العزيز بالله» على الذميين، فتقدموا له بالشكايات. ويحكى «ابن كثير» قصة مثيرة فى هذا السياق يقول فيها: «كان العزيز قد استوزر رجلاً نصرانياً يقال له عيسى بن نسطورس، وآخر يهودياً اسمه ميشا، فعز بسببهما أهل هاتين الملتين فى ذلك الزمان على المسلمين حتى كتبت إليه امرأة رسالة فى حاجة لها- تقول فيها: بالذى أعز النصارى بعيسى بن نسطورس واليهود بميشا وأذل المسلمين بهما لَمَا كشفت ظلامتى. فعند ذلك أمر بالقبض على هذين الرجلين، وأخذ من النصارى ثلاثمائة ألف دينار»! ويبدو أنها واحدة من حيل أى شخص أو قوة تحكم مصر، أن تحاول تهميش المعارضين وحرمانهم من حقوقهم حتى يفيئوا إلى أمر السلطة ويمتثلوا لتوجهاتها، كذلك فعل الفاطميون، فى محاولتهم جر المصريين إلى التشيع، فقد استجاب بعضهم وأبى آخرون، فما كان من الحكام إلا أن همَّشوا معارضيهم، وأعلوْا عليهم أهل الذمة، وإن كان التاريخ يشهد أنهم كانوا الأكفأ فى الأعمال الإدارية، لكن ذلك لم يمنع المصريين من الشكوى، وهو سلاح من الأسلحة التى يستخدمها الإنسان المصرى المقهور عند مواجهة السلطة الظالمة له، وهو ما فعلته تلك المرأة الذكية التى يحكى عنها «ابن كثير» عندما أحرجت العزيز بالله بتمكينه للذميين وإذلاله للمسلمين، فعرََّت فى مجموعة من الجمل أداء الحاكم ووضعته أمام مرآة نفسه!