دفعت الولاياتالمتحدةالأمريكية ممثلة فى إدارة الرئيس «أوباما» الثمن غالياً نتيجة الرسائل الأمريكية المتناقضة! وهذه الرسائل التى تتضمنها توجهات السياسة الخارجية الأمريكية ليست جديدة فى الواقع، بل إنها قديمة لأنها تتعلق باستراتيجية الولاياتالمتحدةالأمريكية فى مجال التعامل مع العالم انطلاقاً من مفهومها الخاص لأمنها القومى. والواقع أن هذا المفهوم تغير من زمن الحرب الباردة، حيث دار الصراع الأيديولوجى الحاد بين الاتحاد السوفيتى باعتباره زعيماً للعالم الاشتراكى، والولاياتالمتحدةالأمريكية باعتبارها زعيمة للعالم الحر كما كان يطلق عليه. ومن المؤكد أن انهيار الاتحاد السوفيتى وبروز روسيا مكانه، وتحول النظام العالمى من نظام ثنائى القطبية إلى نظام أحادى القطبية كان تحولاً تاريخياً ودرامياً. فقد أدى هذا التحول بالولاياتالمتحدةالأمريكية فى غيبة وجود دولة عظمى باعتبارها رادعاً، إلى أن تمارس دورها فى العالم باعتبارها إمبراطورية تزدرى المؤسسات الدولية وفى مقدمتها مجلس الأمن، وتأخذ الشرعية فى يدها على أساس أن قراراتها التى تأخذها منفردة -حتى لو عارضتها الدول الدائمة العضوية فى مجلس الأمن- هى الصحيحة. حدث هذا فى الغزو الأمريكى العسكرى للعراق على وجه الخصوص، الذى قام على أساس مجموعة من الأكاذيب المخابراتية الأمريكية التى زعمت أن العراق يمتلك أسلحة دمار شامل. وتبدو الرسائل الأمريكية المتناقضة فى كونها زعمت أنها فى غزوها للعراق تحمى العالم كله من أسلحة الدمار الشامل العراقية، وهى فى نفس الوقت تسعى لتأسيس نظام سياسى ديمقراطى فى العراق يكون نموذجاً يحتذيه العالم العربى! غير أن التناقض ظهر فى كون الحرب الأمريكية فى العراق أدت فى الواقع إلى تمزيق نسيج المجتمع العراقى، وتحويله إلى نظام طائفى، بالإضافة إلى تدمير البنى التحتية، ووقوع ملايين الضحايا من العراقيين نتيجة القصف الجوى العشوائى واستهداف المدنيين بدعوى إبادة المتطرفين! ومن هنا أثارت بعض التحليلات السياسية الأمريكية الرصينة السؤال الجوهرى، وهو هل ستستطيع الحكومة الأمريكية أن توقف الهجمات من قبل الشعوب الإسلامية على سفاراتها ومؤسساتها أولاً؟ أثير هذا التساؤل الجوهرى بعد الأحداث الدامية التى حدثت فى ليبيا حيث تم اغتيال السفير الأمريكى ومرافقيه نتيجة هجوم إرهابى بالصواريخ على السفارة الأمريكية، كما أن مظاهرات حاشدة هاجمت السفارة الأمريكية فى القاهرة وحاولت اقتحامها بعد إنزال العلم الأمريكى ورفع أعلام تنظيم القاعدة، وذلك شبيه بما حدث فى صنعاء حيث هوجمت السفارة الأمريكية، وفى تونس أيضاً، بالإضافة إلى مظاهرات بالغة الحدة والعنف فى بلاد إسلامية أخرى، بل وفى بعض العواصمالغربية. وتقرر بعض التحليلات الأمريكية الرصينة أن الولاياتالمتحدةالأمريكية تسدد فى الواقع فواتير التناقض بين مبادئها المعلنة وسلوكها الفعلى، مما أثار عليها موجات من الكراهية العميقة هبت عليها من مختلف عواصم العالم الإسلامى والعربى. فهى تتشدق بأنها الحامية الأولى لحقوق الإنسان فى العالم، ومع ذلك فقد ضبطت الولاياتالمتحدةالأمريكية متلبسة بخرق حقوق الإنسان بصورة فاضحة فى أفغانستان والعراق وفى معتقل جوانتانامو. وهى تدعى أنها رائدة الديمقراطية فى العالم، مع أنها هى المدافعة الأولى بل والحامية الرئيسية لدول عربية استبدادية، لأن مصلحتها القومية فى استيراد النفط منها تفرض عليها التغاضى عن تعارض نظمها مع الديمقراطية. وبالرغم من أن الإدارات الأمريكية المختلفة كانت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945 وتأسيس الأممالمتحدة قد أكدت أنها ستتعامل مع كافة دول العالم على قدم المساواة ووفقاً للميثاق وقواعد القانون الدولى العام، وإذا بها تنحاز انحيازاً صارخاً للدولة الإسرائيلية العنصرية، وتتغاضى عن إرهاب الدولة الذى تقوم به واضطهادها للشعب الفلسطينى وحصاره، وبناء المستوطنات غير الشرعية على أرضه. وإذا كان الرئيس «أوباما» حاول فى خطبته الشهيرة فى جامعة القاهرة التى وجهت إلى العالم الإسلامى، إثبات أن إدارته ستنتهج أسلوباً مختلفاً فى إدارة العلاقات الدولية عن الأسلوب العدائى للرئيس السابق «بوش»، الذى جلب له سخط العالم أجمع، فإنه فى مجال السلوك الفعلى استسلم استسلاماً كاملاً للدولة الإسرائيلية، ما عدا ممانعة إدارته فى الهجوم العسكرى المنفرد الذى تريد إسرائيل القيام به ضد إيران لمنعها من استكمال مشروعها الذرى. ويقرر بعض المحللين الأمريكيين أن الولاياتالمتحدةالأمريكية التى قررت اتباع منهج براجماتى مع دول الربيع العربى ورحبت بل وضغطت حتى تتولى أحزاب دينية إسلامية السلطة وفى مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين، فإنها فى الواقع لم تقدر تقديراً كافياً حجم الكراهية التى تحملها لها جماهير المسلمين فى كل مكان احتجاجاً على سياستها الخارجية المتحيزة. وإذا كانت إدارة «أوباما» تبدو فى حيرة بالغة فى طريقة تعاطيها مع الدول العربية بعد الأحداث الدامية التى وقعت ضد سفاراتها فى الخارج، فإن الرئيس «محمد مرسى» يمر بأزمة عميقة، بل إنه كما كتب أحد المحللين يرقص رقصة صعبة، إذ يحاول من جانب إرضاء الولاياتالمتحدةالأمريكية، فى نفس الوقت الذى لا يتجاسر فيه على مواجهة شعبه الساخط على السياسة الأمريكية، الذى يعتبر أن حكومة الولاياتالمتحدةالأمريكية هى التى سمحت بإنتاج الفيلم المسىء للرسول وعرضه، بالرغم من معارضة ذلك للمبادئ والممارسات الأمريكية. والخلاصة أن الرسائل الأمريكية المتناقضة من جانب، والمواقف المصرية المتذبذبة من جانب آخر، هى العنوان العريض للأزمة الراهنة بين الولاياتالمتحدةالأمريكية والنظام المصرى.