حديقة كبيرة تملأها الأشجار والورود من كل صنف ولون، تحتضن بين جنباتها لوحة كبيرة كُتب عليها مستشفى سرطان الأطفال 57357، ذلك المكان الذى تتعلق به آمال الآلاف من قلوب الأطفال أملاً فى العلاج من مرض لعين نال من أجسادهم، ورمضان هنا له طابع خاص تشعر به ما إن تطأ قدماك أرض المستشفى، فهناك فى صالة الاستقبال تزين المكان فوانيس ضخمة مكسوة بقماش الخيامية، فيما تعلَّق صور للهلال وأخرى لفانوس رمضان أعلى الطاولات التى يجلس خلفها متطوعون لجمع تبرعات، وفى الخلفية يعلو صوت شيخ فى إذاعة القرآن الكريم مرتلاً القرآن عبر مذياع المستشفى. كانت الساعة تقترب من السادسة والنصف، وما زال بعض المتبرعين يتدفقون إلى المستشفى أملاً فى أن تساعد تبرعاتهم تلك فى إنقاذ طفل صغير، وما هى إلا دقائق قليلة حتى بدأت ناقلات الطعام فى احتلال المشهد؛ حيث أخذ العاملون فى المستشفى وجبات الإفطار لتوزيعها على الآباء والأمهات المرافقين لأطفالهم أثناء تلقيهم العلاج، فيما ظل طاقم التمريض كل فى مكانه يتابع تلك الأجهزة التى تتدفق عبرها المحاليل إلى شرايين الأطفال الصغار، المشهد يبدو هناك كخلية نحل يعلم كل فرد فيها مهمته جيداً ويحفظها عن ظهر قلب.. «كامل صلاح كامل» انضم لطاقم تمريض المستشفى منذ ما يقرب من عام و7 شهور، يشعر هو وزملاؤه أن الأطفال لا يميلون إليهم كثيراً بسبب الألم الذى يصاحب تركيبهم «الكانيولا» فى أيديهم لتلقى العلاج، لكنه فى الوقت نفسه يعلم جيداً أن هذا العلاج هو أملهم الوحيد فى النجاة من المرض، وأن معظمهم يفقد شهيته تماماً بسبب العلاج الكيميائى فتكون المحاليل حينها هى وسيلتهم الوحيدة لوصول الغذاء لأجسامهم، «كامل» يعمل فى المستشفى 12 ساعة يومياً، ويُفطر 3 أيام فى الأسبوع به مع الأطفال وأسرهم، فيما يتناوب مع زملائه بقية أيام الأسبوع، وبالرغم من أنه يبتعد عن «لمة العائلة» فى رمضان فى الأيام التى يقضيها بالمستشفى، فإنه يقول إن هذا لا يتعبه، بل على العكس فإن سعادته تكمن فى أن يخدم طفلاً يحتاج إليه. على باب إحدى غرف تلقى العلاج تنسدل زينة معلقة فيها صور ل«بوجى وطمطم»، وبمجرد دخولك إلى الغرفة تجد عشرات الأطفال مستلقين على مقاعد وثيرة، فيما تعلق فى أيديهم محاليل تضخ العلاج إلى أجسادهم النحيلة، وبجوار كل طفل يوجد الأب أو الأم أو كلاهما، بعض الأمهات لجأن إلى قراءة القرآن قبل أذان المغرب، فيما احتضنت أخريات أبناءهن حتى يشعروا بأمان أثناء تلقى العلاج، وبينما لا تتوقف صافرات الأجهزة التى تضخ المحاليل عن العمل، فإن الأغانى التى تنطلق من فوانيس بعض الأطفال هناك تحاول أن تنشر الأجواء الرمضانية فى المكان لعلها تخفف عنهم الألم وتنسيهم بعدهم عن منازلهم فى هذه الأيام. «عبدالرحمن» عمره لا يتعدى 6 سنوات، اكتشفت الأم إصابته بالسرطان فى المخ منذ عام تقريباً، ومنذ ذلك الحين وهو يتردد على مستشفى سرطان الأطفال لتلقى العلاج، يقيم هو ووالدته فيه لأيام حيناً، وفى أحيان أخرى يأتيان لتلقى العلاج ويعودان إلى منزلهما فى نفس اليوم، كان الطفل يقاوم ألماً نال منه، وصعب عليه الحركة حين مد يده إلى والدته ليأخذ منها الفانوس ويضعه بجواره أثناء تلقى العلاج ربما يقتل به الوقت الطويل الذى يقضيه جالساً هكذا، والذى يصل فى بعض الأحيان إلى 12 ساعة كاملة. «السادات»، هكذا سماه والده تيمناً بالرئيس الراحل أنور السادات، ذو الثمانى سنوات، يأتى مع والده من محافظة الشرقية يوماً فى الأسبوع لتلقى العلاج بعد إصابته بسرطان الدم، يغفو الطفل فى سبات عميق، وعندما يوقظه الألم ينظر إلى والده باكياً: «عاوز أنام يا بابا من غير المحاليل دى، ومن غير ما أصحى وأنا بتوجع»، يربت الأب على كتف ابنه الصغير ويقول له: «اجمد يا ابنى هانت بإذن الله». أما «أدهم» ذو السبع سنوات، الذى يعانى سرطان المثانة، فطلب من والدته أن تضغط بيديها على زر تشغيل الفانوس؛ لأن المحاليل المعلقة فى يديه تمنعه من الحركة، فنظرت إليه الأم مبتسمة: «ربنا يشفيك يا ابنى انت واللى زيك». انطلق أذان المغرب، وتوجّه الأطباء لكافيتريا المستشفى لتناول وجبة الإفطار حتى يتسنى لهم العودة سريعاً لمتابعة حالات الأطفال، وقبل أن يبدأ الآباء والأمهات فى تناول وجبات الإفطار تمتم الجميع بأدعية ناجوا فيها الله بحق شهر رمضان الكريم بأن يشفى لهم أبناءهم لتعود إليهم بسمتهم من جديد.