بدأ رمضان بنفحاته وبركاته حتى قبل أن يبدأ بأيام طويلة ... ووجدت نفسي منخرطة في سباق محموم لشراء كل مستلزماته وأنا ألهث كعادتي في جمع وطرح وضرب وقسمة ... فأنا من سكر وسمنة وزيت لأرز ومعكرونة ودقيق لبلح وفزدق وبندق ولوز .. وقمرالدين ومشمشية وأراسية وتين ... لبط وحمام ودجاج ولحوم ... وأجبان وألبان وأفنان من الحلوى والمكسرات والكنافة والجلاش والقطايف ولزوم البقلاوة والبسبوسة والهريسة وبلح الشام وأصابع زينب ... والخ الخ من الطلبات التي ألحّ عليّ زوجي في شراء لوازمها وبدون إلحاح فأنا أعلم أن رمضان يعني هذه الأصناف كلها مجتمعة وغير متفرّقة ... وبدأ المطبخ يعاني من تخمة غير طبيعية وأرفف الخزين تنوء بأحمالها وأنا على قدم وساق أرتب وأنظم وأغربل وزوجي يراقب كل هذا بعين الرضا حتى جاءته الفاتورة فاحمرّ وجهه واحمرّت عيناه وهو يصيح من أعماق حنجرته حتى ظهرت لوزه تقريبا وهو يصرخ في وجهي قائلا :" ليييه ... اشتريتي اييييه ... كل دا عشان ناكل في رمضان ونعزم كام نفَر " وتعجبت أيما عجب .. ان كان لا يعلم بغلاء الأسعار ... ألم ير جحافل المشتروات وهي تدخل ولا تخرج من خزائن البيت ... أم كان يظن أن الخيرات التي قدمت لمطبخنا تباعا هبطت علينا بقدرة قادر أو أن لدي مصباحا سحريا خادمه يقول لي طوال النهار شبيك لبيك أم أن عزبة بابي ومزرعة مامي جادت علينا بخيراتها عند قدوم شهر الصوم ... ونظرت اليه نظرة حملت معها كل هذه المعاني فتجاهل نظراتي وراح يعدد بكل حماسة مجموع الأصناف التي يريد أن يأكلها في أول يوم وأنا أسجل في الذاكرة ولسان حالي يقول :" امتى وازاي وفين وهاجيبلكوا وقت منين " ولكن ما باليد حيلة وبدأت من أول ليلة أبلّ الخشاف وأجهّز وأرتب وأصنّف حتى بِتّ ليلة من أشقى ما يكون وأنا لا أحلم بالتراويح أو الدعوات المباركة أو نسمات الفجر العليلة إنما أحلم بالبط والأوز والحمام وهم يصطفون أمامي وأنا أجهّز وأحشو واسلق وأحمر وأُشمّر عن سواعدي طوال الوقت واستيقظت على عجالة لألحق بكل هذا ولسان حالي يقول ....شهر الصيام هو أم شهر الطعام ... ياناس يا هوووو ... ضاع المعنى الحقيقي واختفى الشهر المبارك خلف أطنان من المأكولات والمشروبات ووجدت زوجي يستيقظ بصعوبة ليقف حتى قبل أن يغسل وجهه في منتصف المطبخ فيسأل عن الخشاف ويطمئن على التمر هندي والعرقسوس وعصير القمر الدين وصينية الكنافة وأصابع زينب اصبعا اصبعا والمحشي والحمام المحمر و" الشوربة " بأنواعها شوربة العدس وشوربة الشعرية وشوربة الكريمة ... والسلطات والمشهيات والمكملات وأنا بين نار الفرن وأعين البتوجاز وصهد الشارع الذي فتحت نافذته أملا في خروج الحرّ الذي تدفق من وجنتي غيظا قبل أن يتدفق من كل النيران المحيطة بي واستمر اليوم على هذا المنوال وزوجي لا يكف عن مقترحاته وارشاداته وتدخلاته وكشفه عن ال" حِلل " وكأنه خبير تغذية سابق حتى انتهيت من كل شيء لينتهي معه كل ما بقي لي من صحة فيؤذن المغرب وأضع كل جهودي السابقة على مائدة مستطيلة ويبدأ زوجي والأولاد في الأكل بحماسة ما تلبث أن تفتر بعد دقائق قليلة فأفاجيء بالمائدة العامرة تقريبا كما هي فينهض الجميع وأتنهّد بحسرة تنقلب لأمل وأنا أهتف بحماسة من أعماق قلبي " الحمدلله ... أخيرا هارتاح بكرة ومش هاطبخ " لأجد زوجي فوق رأسي يهتف قائلا باعتراض :" انتي عارفة اني مبحبش الأكل البايت ... اديه لمراة البواب هتنبسط وتدعيلك ... أنا بكرة عايز آكل فتة كوارع " وأمام هذا الفرمان الصريح أجدني والدموع تتساقط من عيني انادي على زوجة البواب وأنا أسمع آذان العشاء يرتفع في الآفاق معلنا عن بدء صلاة التراويح ... فأنظر لقدمي المتورمتين وأنا أجرهما للمطبخ جرا و أهتف بحسرة من أعماق قلبي :" آسفين يا رمضان ... آسفين يا صلاة التراويح ... آسفين يا جامع الفتح وجامع الناس وجامع المصلييين ... انا طول الشهر ف المطبخ من المعتكفين ... تصبحوا على خير وبركة وصلاة وقيام وصيام وانا صابحة على الخشاف والبط والحمام ف البرام وعيني والله ما بتنام " .