هو الذى وثّق على الجدران وبأعمال رسامين وفنانين وشباب مصريين مبدعين لاستمرار مسيرة الثورة إلى أن انتزع موعداً محدداً للانتخابات الرئاسية ولنقل السلطة من المجلس العسكرى إلى رئيس مدنى منتخب. هو الذى وثّق على جدران الجامعة الأمريكية وأسوار وحوائط كثيرة لتضحيات بعض أطهر شباب مصر، بأرواحهم وبسلامتهم الجسدية فى سبيل استكمال أهداف الثورة والبدء فى تحول ديمقراطى واحترام الحقوق والحريات. لم تكن لا الأحزاب السياسية ولا الجماعات الدينية ولا الشخصيات العامة هى التى انتزعت موعد الانتخابات الرئاسية، ولا حق لها فى أن تنسب الفضل لذواتها، بل شباب محمد محمود الذين تخلت عنهم السياسة ولم يسعفهم إلا صدق العزم. جرافيتى محمد محمود بدأت السلطات المحلية فى إزالته، مساء أمس الأول، بطلاء جديد للجدران والأسوار يطمس تاريخ الوطن فى المرحلة المهمة التى كنا بها قبل بضعة أشهر فقط. والسؤال هو: أى وعى غائب أو تفكير قاصر دفع لهذا.. هل جاء فى سياق العمل المشروع بتخليص ميدان التحرير من الباعة الجائلين؟ إن كان هكذا، ففى ذلك خطأ فادح؛ لأن الميدان الذى نريد له أن يخلّد ثورة مصر العظيمة وأن نقضى على العشوائية به تنسجم هويته بالكامل مع وجود جرافيتى محمد محمود. هل جاء بعد شكاوى من بعض قاطنى الشارع ومطالبتهم باستعادة جدران وأسوار خالية من الحياة؟ إن كانت هذه هى الخلفية، فقد كان بالإمكان الحوار بين فنانى ورسامى محمد محمود والسكان لإقناعهم بأهمية الإبقاء على توثيق لتاريخ الوطن ونضال الشباب السياسى. هل أُخذ القرار من قبل أجهزة تنفيذية ومحلية لا خيال برؤيتها ولا اعتبارات مهمة إلا مقتضيات البيروقراطية؟ هنا كان أمام هذه الأجهزة أن تستمع لرؤية الكثير من مبدعى مصر ومثقفيها ومخططيها المعماريين والحضاريين الذين ألحوا منذ رحيل الرئيس السابق على تخليد الثورة فى التحرير والشوارع المحيطة به وطوروا تصورات محددة تحافظ على الجمال المعمارى والتنسيق الحضارى وتحقق هدف التوثيق لذاكرتنا الجماعية ولوعى الأجيال القادمة. ألمانيا التى فصل بين شرقها وغربها وبين أحياء عاصمتها برلين سور مرعب قتل عليه من قتل (فى محاولات هروب متكررة للألمان الشرقيين إلى الغرب) وشهد وجوداً عسكرياً للقوى العظمى التى احتلت ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية وقسمتها، أزالت السور بعد الوحدة إلا أنها احتفظت بجميع قطعه التى رُسم أو نُقش أو كُتب عليها ووظفتها للتوثيق للتاريخ الألمانى فى متاحفها المتعددة بل وخارجها أيضاً. ألمانيا أبقت على بعض أجزاء السور برسوماتها ونقوشها فى مواقعها الأصلية وأقامت حولها متاحف مفتوحة تنشط ذاكرة مواطنيها بأحداث درامية عاصروها أو توعّى الأجيال التى لم تعش التقسيم والزوار من الخارج بحقبة صعبة مرت. وغير ألمانيا الكثير من الدول، كجنوب أفريقيا والأرجنتين، التى تخلد بقايا عصور وتجد فى الأعمال الفنية تعبيراً صادقاً عن نبض الشارع ومجتمع المواطنين. فليذهب إلى الجحيم غياب الوعى وقصور النظر السياسى ودواعى البيروقراطية والجهل بضرورة توثيق تاريخنا المعاصر وأحداثه ونضال الشباب الذى انتزع لنا ما لم تقدر عليه لا الأحزاب الحاكمة اليوم ولا تلك المعارضة، وما لم ندافع نحن عنه بجدية وشباب مصر يضحون بأرواحهم وسلامتهم الجسدية. لهم ولذاكرتنا الجماعية وللأجيال القادمة أعتذر!