عند بزوغ فجر الألفية الثالثة خطا علم التقنية الحيوية خطوات كبيرة للأمام بعد الإعلان عن مشروع الجينوم البشري، وبالتحديد في يوم 26 يونيو 2000م، فقد فتح هذا الإنجاز الكبير الذى استغرق خمسة عشر عاماً، وبلغت كلفته ثلاثة مليارات دولار، آفاقًا كبيرة أمام ظهور الكثير من النظريات والتطورات العلمية والتقنية الحديثة في أبحاث الجينوميات كمحاولة لفك أسرار جميع الجينات في الكائنات الحية، ولكن بعد مرور أكثر من قرن من تحقيق هذا الإنجاز التاريخي فليس هناك مُعَادِل للجينوم في مجال خريطة بروتينات الخلية البشرية، أو البروتيوم البشري حتى الآن. صاحب إنجاز مشروع الجينوم البشري مفاجآت كثيرة، من بينها أن عدد الجينات في الإنسان يتراوح ما بين 20-25 ألف جين فقط، وليس مائة ألف كما اعتقد العلماء لمدة طويلة، ولهذا برز سؤال مهم هو: كيف أمكن تكويننا بمثل هذا الإعجاز والتعقيد من خلال هذا العدد الضئيل من الجينات. وسارع العلماء منذ هذا التاريخ بالبدء في مشروع البروتيوم للإجابة على هذا السؤال الصعب، الذي لخصه العالم الأمريكي "بريان شيت" فيما يلي: "إن ما نريد اكتشافه هو أن في أعماق كل فرد مائة تريليون خلية.. فما هو نوع كل بروتين تنتجه هذه الخلايا؟". لذلك كان لا بد من ترتيب وجرد وتحليل البروتينات والجزيئات المرتبطة بها ذات الأدوار الجوهرية بالنسبة للكائنات الحية، بعد أن تأكد العلماء أنه لا يكفي معرفة الجين المسئول عن حفز الخلايا الحية لإنتاج أنواع بعينها من البروتينات، بل ينبغي معرفة حالة الخلايا أثناء الصحة أو المرض. وسرعان ما اكتشف العلماء مدى صعوبة وتعقيد مشروع "البروتيوم"، مقارنة بمشروع الجينوم؛ حيث يحتوي البروتيوم على أسرار وتعقيدات تزيد عن الجينوم، وقد يحتاج الفهم الكامل لما تنتجه كل خلية من خلايا أجسامنا من بروتينات أثناء المراحل المختلفة لحياتها، والتي قد تزيد عن مليون نوع من البروتينات المختلفة إلى عشرات السنين، وحسب جيمس واطسون الذي كشف عن تركيب المادة الوراثية للمرة الأولى في التاريخ فإن أمامنا 300 سنة لفك أسرار هذه اللغة. ولهذا فإن مهمة العلماء في هذا المشروع تتسم بالصعوبة الشديدة.. إنها مهمة عملاقة تزيد في صعوبتها عن مشروع الجينوم البشري، برغم التقدم العلمي والتقني الذي يتقدم للأمام بخطوات سريعة، ويأمل العلماء أن يجيب مشروع "البروتيوم" البشري على العديد من التساؤلات الحائرة؛ ولكن ليس الأمر بالسهولة المتوقعة فقد يستغرق الموضوع عدة سنوات، ولهذا تشارك أكثر من 70 شركة ومؤسسة عالمية في تطوير علم البروتيوميات. وتشير تقديرات الباحثين لعدد البروتينات في الفرد الواحد من البشر إلى أنها تتراوح ما بين 60000 إلى الملايين حيث لم يتم تحديدها إلى الآن، فعالم البروتين هو عالم بلا حدود، وبالفعل فإن علم البروتيوميات ثورة لشحذ التفكير لحل الألغاز والحصول على المكافأة في نهاية المطاف. ظهر مصطلح "البروتيوم" عام 1994م، وأدخله الباحث الأسترالي "مارك ويلكينز" في دنيا العلم. وجاءت هذه التسمية لتشير إلى الحصيلة الكلية للبروتينات المتواجدة في كل نوع من أنواع الخلايا الحية على حدة؛ فكل خلايا أي كائن حي تحتوي الجينوم نفسه، لكن كلها تقريبا تحتوي بروتيومات متباينة. وإذا كان "الجينوم" يعني جميع الجينات الكامنة في خلايا الجسم، فإن "البروتيوم" هو مجموع البروتينات التي تفرزها خلايا الجسم خلال المراحل المختلفة من حياتها. وإذا كان "الجينيوم" من التعقيد بحيث ينطوي على ملايين العمليات الكيميائية، فإن "البروتيوم" يحتوي على معلومات تزيد ألف مرة مما يحمله الجينيوم! وللتعرف على معنى "البروتيوم" عن قرب علينا أن نتجول قليلا مع بعض أصول المصطلحات العلمية؛ فمصطلح "بروتين" الشهير جاء من اسم أحد آلهة اليونان، وكان قادرًا على اتخاذ آلاف الأشكال وأكثر الأشكال غرابة حتى يستطيع الهروب من مطارديه. وتتكون البروتينات من تسلسل مئات الجزيئات الصغرى والأحماض الأمينية التي يوجد منها عشرون نوعا مختلفا. وعملية بناء البروتين داخل الخلايا الحية تعتمد على المعلومات المحفوظة في الجينات الكامنة في الحمض النووي الموجود في كل خلية حية. ولم يكن لدى عالِم النبات هانز وينكلر أدنى فكرة عما كان يستهله في عام 1920، عندما اقترح استعمال مصطح «جينوم»؛ للإشارة إلى مجموعة صبغيّات (كروموزومات). لكن الهالة الساحرة التي اكتسبتها مبادرة الجينوم البشري باهظة التكاليف لدراسة «الجينوم»، هي التي حددت فيما بعد أهمية هذه التسميات التي تستند إلى اللاحقة اليونانية (ome)، وتعني تقريبًا «ذات طبيعة ..»، ويتألف المبدأ المركزي للبيولوجيا أساسًا من الحمض النووي الذى يرمّز الحمض الريبي النووي الريبى، الذي يرمز بدوره البروتين. وهذا قد يعطيك ثلاث «ومات» أساسية (جينوم، وترانسكربتوم أو منظومة المُنْتَسخات، وبروتيوم)، لكن الحيوية لا تحدث، إلا لأن هذه الأجزاء تعمل معًا. وفي بداية الستينيات اكتشف رواد البيولوجيا الجزيئية أن جينا واحدا يقابل (ويطابق) بروتينا واحدا. وفي السبعينيات أعاد عالم البيولوجيا "ميشال مورانج" تكوين مفهوم الجينات، وأثبت أن جينا واحدا يمكن أن يشكل عدة بروتينات انطلاقا من متوالية الحمض النووي نفسها. وهذه التغيرات البسيطة تكفي في غالب الأحيان إلى تغيير وظيفة البروتين كليا، وقد يقدر جين واحد على إنتاج نحو عشرين بروتينا مختلفة. ويقدر العلماء عدد أنواع البروتينات المنطلقة في الجسم فيما بين 500 ألف إلى مليون بروتين، لكن كل خلية من جسمنا لا تحتوي غير عشرة بالمائة من هذا المجموع؛ لأنه في لحظة معينة واستنادا إلى تخصصها لا تعبر الخلية إلا عن جزء من جيناتها. ونتيجة ذلك تحتوي كل خلية مجموعة متميزة من البروتينات، وهذا هو البروتيوم الخاص بها، ومعرفة كل نوع تعتبر ضرورية للتشخيص الدقيق للمرض. وتكتسب البروتينات هذه الأهمية الكبيرة؛ لأنها الناتج النهائي لعمل الجينات، ولأنها تحكم تصرفات وأفعال الكائنات الحية من المهد إلى اللحد. وكل بروتين يحتاجه الجسم محفوظ كشفرة كيميائية في الحمض النووي، ولأن هذه الجزيئات تؤدي الأدوار الضرورية لعمل الخلية الحية، ومنها: الإنزيمات التي تسرع التفاعلات الكيميائية، والمستقبلات التي تخبر الخلايا عن حالة الوسط الخارجي، والأجسام المضادة التي تتعرف على الجسيمات الغريبة في الكائن الحي. وعندما يحدث المرض تكون البروتينات هي المسؤولة؛ لأنها تكون عاجزة عن حماية الخلية، ولأن ميكروبا أدى إلى اضطرابها. ولهذا فالبروتينات هي الهدف الرئيس للأدوية. وإذا أراد العلماء إعطاء المريض جرعات دوائية ناجعة تصيب هدفا محددًا بوضوح، فلن يكون هذا الهدف سوى أحد البروتينات أو عملية بيولوجية وثيقة الصلة بهذا البروتين، لكن طبيعة البروتينات نفسها تجعل هذه المهمة صعبة للغاية لتنوعها غير العادي. بدء العلماء محاولات جدية في دراسة البروتوميات، وهي دراسة شاملة لجميع أصناف وأنواع البروتينات، بعد أن قام العلماء بقراءة كامل خريطة الحمض النووي الموجودة في جسم الإنسان لأول مرة، وكانت الخطوة التالية بالنسبة لهم هي معرفة جميع البروتينات التي يصنعها الحمض النووي، وقد عمل الكثير من الفرق العلمية لتحقيق هذا الهدف. وفي الأسبوع الأول من أكتوبر عام 2003م اجتمع 3500 عالم من دول مختلفة في مونتريال في كندا لتوزيع هذه المهام على دول شتى. وجاء أول الغيث في هذا المجال العلمي الواعد، عندما أعلن علماء كنديون في مستشفى "جبل سيناء" في "تورنتو" عن الانتهاء من تحديد بروتيوم فطر الخميرة التي تتكون من خلية واحدة في نفس العام وهو أول بروتيوم لكائن حي يتم الانتهاء منه، لتسجل الخميرة سبقًا في عالم البروتيوم. وبالرغم من الكثير من الجهود التي تمت في هذا المجال إلا أن الوصول لخريطة بروتومية بشرية تعثر كثيرًا، لكنّ فريقين بحثيّين نشرا مؤخرًا بدوريّة "نيتشر" نتائج عملهما في تطوير موارد تفاعلية على شبكة الإنترنت، تغطي إجمالًا جزءًا كبيرًا من البروتيوم البشري؛ حيث عرض أخيليش باندي وزملاؤه مشروع مسودة خريطة البروتيوم البشري بناءً على مطياف كتلة تحويل "فورييه" عالي الاستبانة، ورسموا ملامح دقيقة لسبعة عشر نسيجًا من أنسجة أفراد بالغين طبيعيين، و7 أنسجة جنينية، و6 خلايا أوّلية منقّاة منتجة للدم، وحددوا وذَيَّلوا بالشرح بروتينات ترمز بواسطة 17294 جين. تشمل هذه التغطية أكثر من 80% من الجينات المُذَيّلة والمرمِّزة للبروتينات البشرية. واكتشف الباحثون مناطق ترميز بروتين جديدة، تشمل جينات زائفة مترجَمة، وأحماضًا نووية ريبيّة غير مرمِّزة. كما كشف برنهارد كوستر وزملاؤه عن مسودة لخريطة البروتيوم البشري، أساسها مطياف الكتلة، بحيث جمعوا بين بيانات منشورة سابقًا، وأخرى جديدة من الأنسجة البشرية، وخطوط الخلايا، وسوائل الجسم، وصمموا قاعدة بيانات متاحة للجمهور حاليًا لتحليلها. قام العلماء في هذا الفريق بالبحث عن البروتينات الموجودة في كامل الجسم الإنساني، حيث تضمن بحثهم 17 عضو من أعضاء الجسم، بما في ذلك القشرة الأمامية للدماغ، وشبكية العين، والمبايض، والخصيتين، وأعضاء أخرى، إضافةً إلى أنهم قاموا بإجراء تحليلات لستة أنواع خلايا موجودة في الدم، وسبع عينات مأخوذة من أعضاء لأجنّة بشرية، وهذه العينات جميعها مأخوذة من تسعة أشخاص. وقام الفريقان بنشر المسودات الأولى للبروتيوم، ويعتبر المشروع بحد ذاته إنجازاً كبيراً، فلَدَى مجموعة "بيانات البروتيوميات" أدلّة متاحة على موقع على الإنترنت حاليًا حول بروتينات 18 ألف جين بشري، منها مجموعة أساسية من نحو 12 ألف بروتين تُعبَّر في أنسجة مختلفة عديدة. ويتكون الفريق الأول من علماء ينتمون إلى ست دول مختلفة، هي: الولاياتالمتحدة والهند وكندا وتشيلي والمملكة المتحدة وهونغ كونغ، وحدد هذا الفريق بروتينات يصنعها 17294 جين، ومن ضمن هذه الجينات تم تحديد 2535 جينًا تصنع بروتينات لم يتم اكتشافها من قبل، و193 جينًا لم يكن من المتوقع أن تكون جينات صانعة للبروتينات مسبقاً. أما الفريق الثاني والذي يتكون من 22 عالم من معاهد مختلفة من ألمانيا، توصلوا إلى نتائج مشابهة، إلا أنها ليست متطابقة مع ما توصل إليه الفريق الأول، حيث أن الفريق الألماني وجد 18097 جينًا ينتجون 86771 بروتيناً مختلفاً. وأخيراً تجدر الإشارة إلى أن نتائج الفريقين نشرت على اثنين من قواعد البيانات على الأنترنت لتكون متاحة لجميع الباحثين حول العالم. ومن المعروف أن جهود الإنسان لفهم تركيب مادته الوراثية، مرت بثلاث مراحل؛ الأولى كانت مشروع الجينوم الذي منحنا قاعدة بيانات عن حوالي 25 ألف جين تتواجد في 3% من المادة الوراثية، والثانية هي الجهود الحالية لإصدار موسوعة "الإنكود" المعنية بدراسة البقية الباقية من المادة الوراثية، والثالثة هي مشروع البروتيوم المعني بدراسة كيفية تأدية الجينات لوظائفها من خلال دراسة البروتينات المسؤولة عنها. ومن المتوقع أن يكشف علم البروتيوميات الآليات الكامنة للأمراض، مما يؤدي إلى استحداث واكتشاف علاجات ذات صلة وثيقة بالمرض، وسيكون له تأثير على اكتشاف وتطور العقاقير الطبية. وسيؤدي التطور في علوم وتقنيات "البروتيوم" البشري إلى تغيير شكل الدواء خلال العقد الحالي والعقود التالية، وسيتم التركيز بشكل أساسي على الطب الوقائي؛ أي منع المرض قبل وقوعه؛ وهو ما يؤدي لتغيير مفهوم التداوي والعلاج، وسوف تشهد هذه الصناعة تحكم كبريات شركات الأدوية في العالم، التي تستثمر مليارات الدولارات لتطوير هذه التقنيات الجديدة، مما يؤدى إلى ظهور اقتصاد جديد في عالم الدواء يتنبأ بالمزيد من الفتوحات الطبية والنجاحات المتتالية، وبالتالي المزيد من المليارات والأرباح وتحكم شركات الأدوية في مصير الإنسانية. فأين نحن مما ستشهده صناعة الدواء خلال الأعوام القليلة المقبلة؟ وهل سنكتفي بمتابعة أخبار الإنجازات العلمية في هذا المجال، أم نشارك في صنع هذا المستقبل المشرق؟ سؤال مرير يبحث عن إجابة! * أستاذ التقنية الحيوية المساعد كلية العلوم والآداب ببلجرشي جامعة الباحة-المملكة العربية السعودية. متخصص في الوراثة الجزيئية والتكنولوجيا الحيوية-قسم النبات، كلية العلوم، جامعةالقاهرة.