■ قال بابا شارو «محمد محمود شعبان»، رئيس الإذاعة المصرية أثناء حرب أكتوبر: «جاءنى وزير الإعلام عبدالقادر حاتم ومعه البيان الأول للعبور.. فقلت له وأنا أتذكر مهزلة بيانات النكسة فى 5 يونيو 1967: «تانى!»، أى هل نكرر تزوير البيانات مرة أخرى؟ فبكى «حاتم» وهو يقول: والله، هذه المرة بجد، «أى بحق». فبكى الاثنان وأذيع البيان الأول لنصر أكتوبر، وكان فاتحة لعهد جديد من المصداقية للإعلام المصرى عامة وفى الحرب خاصة، فلم يعلن عن سقوط طائرة إلا إذا عثر على حطامها وتم تصويره، ولا يعلن عن سقوط نقطة حصينة حتى تنشر صور للمراسلين فيها، ولا يعلنون عن أسر ضباط وجنود إسرائيليين إلا بعد نشر صورهم فى التليفزيون المصرى، حتى إن البيانات العسكرية المصرية فى حرب أكتوبر كانت تعلن عن عدد الخسائر الإسرائيلية بأقل من الحقيقية حذراً وحيطة. ■ لقد كنت أثناء حرب يونيو 1967 غلاماً صغيراً، وكنت مع أشقائى الكبار نمتلئ وطنية وحباً للوطن، وكنا نشترى الصحف الثلاث الأهرام والأخبار والجمهورية، وكان ثمن النسخة قرشاً، وكان عبئاً كبيراً على مصروفنا وقتها، وكنا نفرش هذه الصحف على الأرض؛ فهذا يقرأ فى الموقف على الجبهة المصرية، وآخر يتابع على السورية أو الأردنية.. وكنا نتصايح فرحين حينما نقرأ فى الصحف أو نسمع من صوت العرب عن سقوط ثمانين طائرة إسرائيلية اليوم وخمسين غداً وأربعين بعد غد.. وهكذا! ■ وكنا نمنى أنفسنا بقرب تحرير فلسطين كلها، وخاصة عندما نستمع إلى الإذاعى الشهير أحمد سعيد وهو يردد: بشرى يا عرب، فلم يبق على تل أبيب سوى 14 كيلو متراً! ■ وكنا نتوق إلى تحقيق هذه الأحلام، ثم صحونا وكبرنا ونضجنا على كابوس مروِّع، وعلى هزيمة ماحقة لأعرق جيوش المنطقة، وتدمير سلاح الطيران المصرى. ■ أما الطائرات الإسرائيلية التى أعلنت مصر عن سقوطها فلم تكن سوى خزانات الوقود الفارغة التى ألقتها فى طريق عودتها بعد نجاحها فى قصف المطارات المصرية. ■ هذه الكارثة والفضيحة الإعلامية التى حدثت للإعلام المصرى أثناء نكسة 5 يونيو 1967 لم تأتِ من فراغ، ولكنها حصاد مرٌّ لسنوات طويلة من التزييف والتزوير الإعلامى. ■ وقد بدأ هذا الحصاد المر بتحويل الأخطاء التى وقعت فيها القيادة العسكرية المصرية أثناء العدوان الثلاثى على مصر 1956 إلى انتصارات وإيجابيات، فقد تم تدمير سلاح الجو المصرى فى 1956 بالكامل، ونفس الأمر تكرر بحذافيره 1967! ■ ولو كانت هناك مصداقية وشفافية حكومية وإعلامية وكشف عن الأخطاء العسكرية فى 1956 وحوسب المسئولون عنها، لما تكررت نفس المأساة يوم 5 يونيو، ولكن تم تحويل الهزيمة العسكرية سنة 1956 إلى نصر مؤزر. ■ نعم، لقد تم فى سنة 1956 النصر السياسى لمصر، أما النصر العسكرى فلا، وظل المشير عامر مع نفس قادة الطيران ليكرروا نفس الكارثة بل وأفدح، وبخاصة أنهم تخيلوا تحويل هزيمة 67 إلى نصر كما فعلوا فى 1956 ولكن هيهات، هيهات! ■ ولو أن مصر بعد حرب سنة 1956 كونت لجنة عسكرية مصرية محايدة للتحقيق فى الأخطاء التى وقع المشير عامر ورجاله فيها وحاسبت المقصرين، ما تكررت المأساة يوم 5 يونيو 1967. ■ أما أن يترقى «عامر» من لواء إلى مشير عقب هزيمته سنة 1956، فهذا هو العبث بعينه. ■ ثم استمر الكذب والتزوير والتضخيم الإعلامى فى جيشنا؛ فهو أعظم الجيوش وأفضلها وأقواها.. وهو.. وهو.. وهو.. حتى اعتقدت كل الأجيال التى عاشت العهد الناصرى أن جيشنا يستطيع تحرير فلسطين وهزيمة إسرائيل بمنتهى السهولة فى يوم واحد. ■ حتى خطابات الرئيس ناصر نفسه كانت توحى بذلك لأجيالنا، فهو الذى قال: «سنلقى إسرائيل فى البحر». ■ ثم جاءت الكارثة الكبرى؛ فى توريط الجيش المصرى فى حرب عصابات فاشلة فى اليمن، حولت الجيش المصرى من جيش نظامى إلى جهاز مباحث وشرطة لا علاقة له بحرب الأسلحة المشتركة أو حروب الجيوش النظامية. ■ وفى اليمن تعلم الجيش أن يعلن بيانات وهمية عن تحرير الجبل الفلانى، والاستيلاء على المنطقة الفلانية! وكان الجبل يحرر عدة مرات دون خجل! ■ فإذا جاءت حرب سنة 1967 اتبعوا نفس الأساليب ظناً منهم أنها ستفلح كل مرة، «وأنها لن تخيب الجرة معهم أبداً»! وبدلاً من أن يكون هناك جهاز متخصص دقيق ومحايد فى الجيش للبيانات العسكرية، كان المشير وشمس بدران وأعوانهما يملون أفكار البيانات العسكرية مثل سقوط الطائرات أو اقتراب الفرقة الرابعة من تل أبيب، فى الوقت الذى كانت تُدمر فيه فى سيناء!