تذكرت الراحلة، ماري منيب، والمسرحية القديمة وأنا أبحث عن عمل، لأوكد به للجميع أنني جئت لأشتغل "سواقة "، أي جئت لأعمل بما يرضي الله وأساعد على سير العمل كما ينبغي له أن يسير، لم تكن لي أهداف سوى العمل فقط، دون فلسفة أو لفت نظر أو حتى الحصول على مبالغ طائلة، ولكنني كنت مكتفية بما يأتيني متناسبا مع حالتي الاجتماعية، وظروفي كفتاة غير متزوجة ولا أعول احدا على الاطلاق، وبدأت رحلتي في البحث عن عمل، ولأنني حاصلة على بكالوريوس تجارة كنصف ابناء الشعب المصري المتعلم، فقد كانت فرصتي في العمل شبه منعدمة. اتكلت على الله وبدأت أدقّ الأبواب وعشمي في وجه الله الكريم، حتى دخلت مكتب محاسبة لرجل شديد الوقار والاحترام فاستقبلني بتحفّظ شديد، وبدأت العمل في مكتبه فأعطاني غرفة صغيرة بمكتب متواضع ولكنه مناسب فانخرطت في العمل بكل اخلاص وتلقائية اعتاد عليها الجميع مني، ولكنني لاحظت تجهم الرجل معظم الوقت وتقطيبه جبينه، وحرصه المفرط على النظام حتى أنه كان لا ينظر لعملي بقدر ما ينظر عند دخوله لوضع المكتب وزاويته، فلو تحرّك من مكانه قيد أنملة القى على مسامعي محاضرات طويلة، في كيفية الانضباط والالتزام وكيف ان "اللي يمشي عدل يحتار عدوه فيه الى آخره من الأمثال الشعبية". أصبحت مطالبة بوضع مسطرة حرف تي لمكتبي كي لا ينحرف لا سمح الله عن مساره بلاطة أو بعد الشر بلاطتين، ولم اتحمّل فقدمت استقالتي في أقل من شهر وانا أعدو نحو الشارع تماما وكأنني أخرج من سجن القناطر؛ وتوالت الوظائف، فهذه تنظر اليّ من فوق لتحت وتهمس للسكرتير الخاص بها قائلة "هيه فاكرة نفسها إيه.. مصلحة اجتماعية" لمجرّد اني قلت رأيي مرة، وهذا يرفع لي حاجبا ويغمز بعينه وهو يمشط لي ما بقي من خصلات شعره، "أكيد الحكاية مش ناقصة" وهؤلاء يريدون الانخراط معي في أحاديث جانبية بعيدة تماما عن خط سير العمل، "وكيت وكيت.. وياريتني يا نينه لا رحت ولا جيت ". هذا يريدني منقطعة تماما عن الدنيا الا من مكتبه وملفاته المتكدسة، وتلك تريد طباخة وسكرتيرة وخياطة ولا مانع من دادة إن لزم الأمر، ومسألة المحاسبة هذه جانبية، فالحساب عندها فقط يوم الحساب، وهذا يترك متعلقاته المادية على النوتة فلا راتب ولا يحزنون، وذاك لديه هواجس وشكوك ويضع لي كاميرات مراقبة في كل مكان، فوضعت وجهي حين مللت في الكاميرا وأخرجت له لساني ومعها استقالتي، أسرعت نحو الشارع ومعي كاميرتي "الديجتال" والتقطت صورا لكل من قابلني وأراد أن يبتسم في وجهي، القيت استقالاتي ومعها جزء لا بأس به من حياتي. قررت أن أصبح كما أنا، لا كما يريدني الآخرون، فالكاميرا التي أحملها لم تكن تكذب أبدا، فليست كاميرا لقناة فضائية موجهة، ولكنها لا تلتقط إلا ما تراه عدستها فقط وما تعكسه حقيقة من يقابلها، أصبحت أجوب الشوارع لألتقط أفلاما لما أراه وما يستحق التصوير، ولأنني أخذت دروسا مكثّفة و مسبقة في فن التصوير على سبيل الهواية، صارت الكاميرا العزيزة وظيفتي، والآن وإذا سألت عني فقد تجدني، إما في الشارع مع المواطنين أو في أحد الأفراح ألتقط الصور للمعازيم، أو في أي مناسبة مع أصدقائي "الأنتيم"، المهم أن تجدني؛ فقط أريد لكل من يقرأ هذه السطور أن يدعو لي بأن أجد نفسي لأنني أبحث عنها كثيرا وسط الزحام فلا أجدها.