جملة لن أنساها ما حييت.. وأم عيد عرفناها من ساعة ما وعينا عالدنيا فى حى بولاق الدكرور، ست عجوزة جداً ونحيفة جداً وكشرية جداً جداً، ومكروهة من كل أهل الحتة جداً جداً جداً.. وبالذات إحنا لأنها كانت دائماً تمنعنا من اللعب بجوار البيت اللى ساكنة فيه.. ولا أعرف حتى الآن السر فى أن الكل كان يتلافاها ويتحاشاها.. وأم عيد نفسها كانت سراً كبيراً.. والسر ده ما حدش عرفله بير.. كل اللى عرفته إنها جاءت إلى الحتة قبل ما آجى إلى الدنيا.. وكانت برضو عجوزة قوى.. وأجرت غرفة فى بيت عم الحاج أحمد.. وهو بيت قديم متهالك.. وكانت أم عيد عايشة لوحدها.. لا بتود حد، ولا حد بيودها.. وكل الناس كانوا بيتقوا شرها ومكرها.. وطلعوا عليها إن كعبها محنى وعينها مدورة.. هذا ما أتذكره من حكاية أمى، الله يرحمها عنها.. ولكن الشىء الذى لم ولن أنساه ما حييت.. هو يوم وفاة أم عيد. ذات صباح وكالعادة صحيت مالنوم للشارع مباشرة لألتقى بشلة العيال، لنرسم خريطة المستقبل ليومنا.. لكى نستغله أفضل استغلال قبل انقضاء إجازة نص السنة.. لكن أم عيد أفسدت خارطة الطريق.. اقتربتُ من المتجمعين عند بيت الحاج وسمعتُ بعض الهمهمات، والهمسات وبالذات بين الستات.. «ريَّحت وارتاحت.. الله يرحمها بقى كانت نحس.. اذكروا محاسن موتاكم.. هيا كان ليها محاسن عشان نذكرها.. اتلمى يا وليه إنتى هيا.. هى ماتت إمتى وإزاى؟!.. عم الحاج أحمد بيقول»، وهنا يأتى صوت عم الحاج أحمد ليقطع فحيح الأفاعى ويمزق شوقى الشديد لمعرفة بقية الحكاية.. وهو يردد وحدوووووووووووه.. ليرد الجميع لا إله إلا الله.. ثم يخرج بعده بعض شباب الحى وفوق أكتافهم أم عيد. كانوا اللى ماشيين فى الجنازة حوالى عشرين.. واللى شايلين النعش كانوا ماشيين بالعافية وكأنهم مضطرون.. أما أنا، فكنت ملاصقاً لعم الحاج أحمد.. فكم كنت أحب هذا الرجل.. أحب البسمة التى لم تفارق وجهه الأبيض المنَّور دائماً.. أحب طريقته فى الكلام.. وخفة حركته، رغم ثقل وزنه وكبر سنه.. وفجأة وجدته يسرع ناحية النعش فلاحقته.. سمعته يهمس للشباب اللى شايلين أم عيد.. سرَّعوا شوية.. اجروا اجروا.. ولأنه كان محبوباً من الجميع.. لبى الشباب الأمر فوراً وجريوا بالنعش.. وإذا بعم الحاج أحمد يجرى معهم وهو يهتف «بالراحة يا أم عيد.. بالراحة يا طاهرة.. مستعجلة كدا ليه يا مؤمنة». وفجأة وبقدرة قادر تحولت الجنازة الهزيلة إلى جنازة شعبية وعم الحاج ما زال يهتف: «بالراحة يا أم عيد.. بالراحة يا طاهرة.. مستعجلة كدا ليه يا مؤمنة». والمئات بعده يرددون: «لا إله إلا الله.. أم عيد حبيبة الله».. ورغم أنى وقتها لم أدرك ما هذا الذى يحدث حولى.. ورغم كرهى الشديد لأم عيد، التى كانت تطاردنى فى كوابيسى.. فإن قشعريرة رهيبة سرت فى جسدى.. وازداد نبض قلبى.. وأمطرت عينى الدموع.. ووجدتنى أردد مع الجموع.. بصوت حزين موجوع: «لا إله إلا الله.. أم عيد حبيبة الله»، ثم أهتف مع حبيبى عم الحاج أحمد: «بالراحة يا أم عيد.. بالراحة يا طاهرة.. مستعجلة كدا ليه يا مؤمنة». كبرت هذه الحكاية معى.. وكل فترة كنت بفكر فيها بطريقة تختلف عن الأخرى.. وكنت أتعمق وأتلذذ بتفسيرها وتحليلها وحكيها للآخرين.. وكم تمنيت أن يمشى هذا الرجل الصالح، «الله يرحمه»، فى جنازتى ويهتف: «بالراحة يا عم صلاح.. بالراحة يا طاهر.. مستعجل كدا ليه يا مؤمن». وإلى أن نلتقى مرة أخرى.. ده لو كان فيه مرة أخرى.. تحياتى لكم، وأطيب أمانى قلبى ودعواته.. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.