كتبت ذات يوم أن: «تفكيك الدول والمجتمعات لا يبدأ على الأرض، بل قل إنه ينتهى على الأرض التى يتم توزيعها على كل فريق من أبنائها، إنه يبدأ فى عقول ونفوس الشعوب». قفزت هذه العبارة إلى ذهنى وأنا أتابع معمعة الدم التى استعرت فى «أسوان» فأقضت مضاجع أبنائها، وجعلت شغلهم الشاغل هو إعداد «الأكفان» لستر أمانة موتاهم الذين تراصت جثثهم فوق العربات الكارو! عبثاً حاول رئيس الوزراء «إبراهيم محلب» ومعه وزير داخليته إصلاح ذات البين، فضربا مشواراً إلى أسوان عادا منه بخفى حنين، إذ تجددت الاشتباكات بعد عودتهما بساعات ليسقط خمسة قتلى جدد، ويصل إجمالى عدد من لقوا حتفهم حتى كتابة هذه السطور إلى 28 قتيلاً. نحن أمام مشكلة جوهرها شعب يائس من الدولة ودولة يائسة من الشعب! عندما قامت ثورة يناير تأمّل المواطن خيراً بميلاد نظام حكم جديد يرتكز على العدل، ومنح الحقوق لأصحابها، ارتبط أول اختبار لنظام ما بعد يناير بالقصاص لشهداء الثورة، لكن النتيجة جاءت على غير المتوقع، ولم ينل قاتلٌ جزاءً على جريمته، تتابعت أحداث القتل بعد ذلك، وفى كل مرة كان يمر الأمر بغير قصاص. كانت النتيجة أن يئس الشعب من الدولة وأصبح منطق المواطن اليوم: إذا لم أنل حقى بيدى فلن أحصل عليه مطلقاً، لأن من ارتكن على عدل الدولة بات معلولاً بألم الظلم. وقد ترتب على ذلك إحياء ذلك القانون الأزلى الذى يقول: «العين بالعين والسن بالسن والبادى أظلم»، وهو قانون راسخ فى النفس البشرية كان يهذب من شروره صعود دور الدولة وتدخلها فى الوقت المناسب لمنع إراقة الدماء أو حل قضايا الثأر بين العائلات وغير ذلك من أمور. فالجالسون على كراسى السلطة اليوم مشغولون كل الانشغال بصراعهم مع الخصم المنافس والحالم بالعودة إلى كرسى الحكم من جديد، ولم يعد لدى هؤلاء أدنى وقت أو جهد يمكن منحه لحل مثل هذه المشكلات. فى هذا السياق يمكن أن نفهم أصل العلة فى مذبحة أسوان، التى بدأت بتبادل العبارات المسيئة بين قبيلتين، ثم دارت رحى القتل بين «الهلالية» و«الدابودية»، فى غياب الدولة وأجهزتها! تحركت الدولة بعد أن وقعت الواقعة، وقد كان من الممكن أن يكون لتدخلها بعض الأثر، لكن المشكلة أنها تتعامل بمنطق «الدولة اليائسة من الشعب». فمنذ قيام ثورة يناير وكل رموز السلطة الحالية ونخبها ومناصريهم يرون أن هذا الشعب قد فلت عياره، وخرج من القمقم، ولم يعد يحترم ما يسمى ب«هيبة الدولة»، تجد هذه الحالة تنطبق بدرجة كبيرة على أداء الشرطة التى كان رجالها أول من نحتوا عبارة «خلى الثورة تنفعك» فى مواجهة أى مواطن يستنجد بهم! فى هذا السياق نستطيع أن نفهم ما ذكره أحد شهود العيان حين سئل: أين كانت الشرطة عند بداية المذبحة؟ فأجاب: «الشرطة.. فص ملح وذاب»! مشكلة السلطة التى تدير الدولة حالياً أنها لا تدرك أن الغضب ما بين أبناء الشعب الواحد سوف ينقلب عليها ليتكاتف المتخاصمان ضدها بأسرع مما تتخيل!