فى تاريخ الثورات صفحات باكية دامية، كثيرها مسطر بدماء الثوار، وقليلها مكتوب بدماء أعدائهم. وأدمى تلك الصفحات وأوجعها تلك التى خُطت فى معارك الاقتتال العبثى بين الثوار أنفسهم، وفى ميادين الاحتراب غير المبرر بين فصائلهم ورموزهم، أحياناً حول أولويات بعضهم يرى تأجيلها والبعض الآخر لا يرى، وأحياناً أخرى لخلاف عابر حول تفسير «نص ثورى» شارد كتبه صاحبه لواقع غير الذى انتفضوا عليه وثاروا ضده. وللثورة قوانينها الحتمية، سواء كانت الثورة بعيدة عن زماننا أو قريبة منه، وهى مثل قوانين الطبيعة لا تتغير ولا يدركها الفناء، إذا تراكمت ظروفها لا تخلف وعدها، وقد خلفت الثورتان الفرنسية والروسية ضحايا من أبنائهما وأنصارهما يعزون على الحصر، ماتوا على أعواد المشانق التى نصبها الرفاق للرفاق، حتى قيل وهو قول صحيح «إن الثورة كالقطة تأكل أبناءها»، وبين الثورة واستقرارها نقطتان، بينهما طريق طويل، بعضه مفروش بالفوضى وبعضه موحل فى الدماء. وبين النقطتين عادة تُسرق الثورات وتُختطف، بينما الثوار لاهون بالمغانم، سكرى بنشوة النصر على عدو لم يجهزوا عليه قبل أن يجهز عليهم. وعادة ما تلدغ الثورات من جحر مرتين وربما مرات. فالثوريون فى كل الثورات ليسوا نسيجاً متجانساً بل خليط من الرومانسيين والنرجسيين والفوضويين، ومن ثغرات هذا الخليط يتسرب الانتهازيون والمنافقون وعواجيز الفرح وأعداء الثورة نفسها، وبسبب هذا الخليط تتنحى الثورة جانباً وتبحث بين حرس النظام القديم وعواجيز السياسة عمن يقود مراحلها الانتقالية حتى تضع دستورها وتلملم أشتاتها وتنظم صفوفها المبعثرة. وأحياناً تطول المرحلة الانتقالية فلا تجدى معها حكومة انتقالية واحدة أو حكومتان حتى يُظن -وليس كل الظن إثم- أن رسالتها فقط هى إعادة تجديد النظام القديم، وليس نقل البلاد من مرحلة الشرعية الثورية إلى مرحلة الشرعية الدستورية. وبقدر ما تطول أعمار الحكومات الانتقالية بقدر ما تقصر أعمار الثورات ويتراجع تأثيرها. وغالباً ما لا ينحى الناس باللائمة على الحكومات الفاشلة. وإنما يكفرون بالثورات نفسها، رغم أنها ما زالت «وعداً» يلمع كنجم بعيد فى السماء، يهدى السائرين فى عتمة الليل. وقد تعلمت أمم من تجارب غيرها، فاختصرت طريق الفوضى والدماء، وسلكت إلى أهدافها أقصر الطرق، بينما استنسخت أمم أخرى أخطاء غيرها لتتعثر فيها وتنغرس فى أوحالها. والثورة المصرية، وهى بعد فى عامها الرابع لم يكتمل، ما زالت تتعثر فى خطاها وتتلكأ فى سيرها، «تنتقل خطوة إلى الأمام وترتد خطوتين إلى الخلف»، إما بسبب الثوريين أنفسهم، أو المحسوبين عليهم، أو المندسين بينهم، أو الطابور الخامس الذين يتغدون مع «الحسين» ويتعشون مع «يزيد». والثورة المصرية -بأحزابها وتياراتها ورموزها- وهى توشك أن تنقل خطوتها الثانية على خارطة الطريق لا يبدو أنها تعلمت كثيراً من تجارب غيرها، أو استفادت من دروس الماضى القريب، عندما لُدغت من جُحر الإخوان، وصدقت أن فصيلاً رجعياً محافظاً يمكن أن يكون شريكاً فى عمل ثورى. وفى المرحلة الثانية لخارطة الطريق نحو انتخاب رئيس يقود البلاد إلى الاستقرار يبدو أن الثورة توشك على الدخول فى حقل ألغام جديد، لم يزرعه الإخوان هذه المرة وهم سادة الشر والإرهاب، وإنما يزرعه الثوريون بأيديهم، عندما يفجرون فى صفوفهم تناقضات ثانوية ليس الآن أوان تفجيرها، ولا مناسبتها، وأخطر لغم يترصد الثورة فى الانتخابات الرئاسية المقبلة أن يكون لها مرشحان. مرشح فوضه الناس قبل أن ينتخبوه واستجابوا -بدوافع الفطرة ومكبوت الوعى الموروث- لنداء الضرورة، والحاجة إلى الأمن وكسر جحافل الخطر الزاحف من كل صوب، كان الاختيار خلاصة تجربة من تجارب الخلاص القومى التى يتحول فيها المخلصون، المنقذون إلى أبطال قوميين كأبطال الأساطير اليونانية. والمرشح الثانى، مناضل ثورى، تاريخه مرصع بالمواقف الوطنية والقومية، ومزدان بالتضحيات ونياشين الملاحقة والاعتقال، ينتمى إلى تيار أوسع من أى حزب ولا يختزل فى أى تنظيم، تيار يكاد يفترش المسافة الممتدة من المحيط إلى الخليج، وولاؤه لزعيم أفكاره لا تشيخ ولا تتقادم، تتجدد ذاتياً بتفاعلها مع الناس ومع التاريخ، كان بطلاً قومياً فى انتصاراته وأيضاً فى انكساراته. مرشحان قويان يتوارى إلى جانبهما أى مرشحين آخرين حتى وإن ظهروا، يجعلان انتخابات الرئاسة المصرية صورة قريبة -مع الفارق طبعاً- من انتخابات الرئاسة الأمريكية. وأهم فارق أن المرشحين الرئاسيين المصريين ينتميان إلى معسكر الثورة، بينما المرشحان الأمريكيان ينتميان إلى حزبين مختلفين. قد يرى البعض أن مرشحاً بتاريخ حمدين فى وجه مرشح بوزن السيسى هو ضمانة مؤكدة لأن تشهد مصر انتخابات تنافسية على غرار الديمقراطيات الكبرى، وليس صورة جديدة من صور الاستفتاء غير المرغوب فيه على الرئيس كما جرى العهد فى الماضى القريب. وهو رأى له وجاهته إذا كان المتنافسان من حزبين مختلفين، أو أن الانتخابات لا تجرى فى سياق تحول ثورى أو يغيب فيها الإجماع على بطل قومى مجرب. أما وأن المرشحين رمزان كبيران للثورة، فإن التنافس بينهما لن يكون إلا صراع ديكة وصورة من صور الاقتتال السياسى ليس فيها خاسر إلا الثورة. ومصدر القلق ليس فى المرشحين ذاتهما، وإنما فى أعوانهما ورجال حملتيهما الانتخابيتين والخطاب الإعلامى الهابط والمسف الذى قد تلجأ إليه حملة أو أخرى. قد يشتط الخطاب الإعلامى فيستعير قُبح الإخوان وسفالتهم التى لطخوا بها الحوائط والجدران. وقد يستخدم شعارهم الجاهز عن «حكم العسكر» فى غزل غير عفيف لأعداء الثورة يستدر به عواطفهم، ويتسول «أصواتهم». وهؤلاء يقعون -بقصد أو غير قصد- فى تناقض صارخ بين مرشح ينتسب برباط مباشر إلى مؤسسة العسكر وآخر يخوض معركته ويتحرك بين جماهيره تحت رايات زعيم من أهل العسكر قاد أعظم حركة للتحرر الوطنى والاجتماعى فى القرن العشرين. وفى بلادنا كان العسكرى دائماً ضميراً صادق الوعد فى لحظات الضرورة. وفى سياق خطاب دعائى مغرض قد يغالى بعضهم فيفتشون فى الصدور والضمائر، ويشككون فى الانحياز الاجتماعى لرجل غامر بحياته وأنقذ سفينة وطن كانت على وشك الغرق بكل ركابها، فقراءهم -وهم الغالبية- وأغنياءهم وهم الأقلية فعن أى انحياز يُسأل؟! ووجه التناقض بين الرجلين أن السيسى بطل قومى جاء فى لحظة فارقة لم يتأخر عنها أو يتردد فيها، بينما حمدين مناضل ثورى كان ضحية الحسابات الثورية ضيقة الأفق والتناقضات فى معسكر الثورة التى أخرت وصوله فى 2012 إلى سدة الرئاسة. وألقت به -فى جولة الإعادة- خارج المنافسة التى كان طرفاها غير محسوبين على الثورة، مرشح الإخوان ومرشح النظام المخلوع. قد يكون حمدين -كما قال أرسطو عن أفلاطون- قريباً إلى نفسى بيد أن الوطن، الحقيقة أحب إلىَّ من حمدين. والوطن الآن فى حاجة إلى رجل قوى، تسند ظهره وتشد أزره مؤسسة قوية، غير مشكوك فى ولائها أو انحيازها.