الأصل فى دستور الدولة المدنية الحديثة هو أن ينظم العلاقة بين الدولة والمواطن والدِّين على نحو يحول دون خلط الأخير بالسياسة، ويضمن الحيادية الكاملة للدولة وقوانينها ومؤسساتها إزاء الانتماءات الدينية المتنوعة لمواطناتها ومواطنيها ويحمى حرية الاعتقاد. لذا، عادة ما تنص دساتير الدول الحديثة على أن الدِّين شأن خاص ودوره المجتمعى مرتبط بالقوانين المنظمة للحياة الخاصة (قوانين الأحوال الشخصية على سبيل المثال)وبمؤسساته التى تؤدى دوراً مركزياً فى التنشئة والتوعية وصياغة نظام قيمى متماسك دون إجبار للمواطن على الالتزام به عبر منظومة عقوبات قانونية تطال الخارجين عليه. فحرية المواطن الشخصية هى الأساس وضمانها واجب الدولة، والنظام القيمى المرتبط بالدين يقترح عليه مجموعة من مبادئ وأنماط السلوك الشخصى له أن يتبعها أو لا دون أن يعاقب أو يصاب بأذى. عادة أيضاً ما تنص الدساتير الحديثة على أن السياسة هى نشاط بشرى يستهدف تحقيق الصالح العام ويمارسه، فى الدول الديمقراطية، المدنيون المنتخبون. ويترتب على هذا كون السياسة الديمقراطية مجالاً لتنافس الأحزاب والكيانات السياسية المختلفة على ثقة المواطن عبر رؤى وبرامج وبدائل لا تخلط بين الدينى والسياسى. لذا، تحظر الدساتير الحديثة ممارسة السياسة وتأسيس الأحزاب والمنافسة فى الانتخابات على أساس دينى، فى حين يتيح بعضها، وفى إطار قوانين ناظمة للأحزاب، الاستناد فى برامجها وبدائلها إلى رؤى دينية أو رؤى وضعية (ليبرالية ويسارية) أو خليط من الاثننين دون أن يزج للسياسة بثنائية الحلال والحرام أو تستبعد الرؤى الوضعية لمجرد كونها هكذا. عادة، ثالثاً، ما تنص الدساتير الحديثة على المساواة الكاملة بين المواطنات والمواطنين بشأن الحقوق السياسية وتحظر على ممارسى السياسة مخاطبة المواطن ببرامج أو بدائل تناقض هذه المساواة الكاملة. بهذا المعنى لا يحق لحزب أو كيان سياسى أو لمرشح فى الانتخابات أو لمسئول تنفيذى أن يدعو لاستبعاد مواطنين بعينهم من مناصب أو ترشيحات انطلاقاً من الانتماء الدينى، حتى وإن كانت هذه الدعوة اختيارية (أى بصيغة تفضيل الحزب أو الكيان أو المرشح). والسبب، بإيجاز، هو أن الدستور الذى يؤسس للمساواة الكاملة لا يبيح لأى طرف جماعى أو فردى تجاوز المساواة والعصف بها. فهل سينص دستور مصر الجديد على هذه القواعد والضمانات التى تنظم العلاقة بين الدولة والمواطن والدين وتحول دون خلط الأخير بالسياسة وتحترم الحرية الشخصية كأساس لا بديل له للدولة المدنية الحديثة؟ لا أدرى وأتخوف بشدة.