لا أدرى من أين جاء بعض المسلمين المعاصرين الذين تحولوا إلى قنابل غضب وتدمير وكراهية ضد المسلم الذى يختلف معهم فى الرأى وضد كل من يختلف معهم فى التوجه السياسى، مع أن التسامح نتيجة حتمية للعقيدة الإسلامية فى التوحيد؛ فالإسلام (كما عبر عنه القرآن والسنة الصحيحة) يقدم تصورا لله تعالى على أنه الإله الواحد، إله الناس أجمعين وربهم، سواء كانوا مؤمنين أو كافرين، مطيعين أو عصاة. وسواء كانوا أصوليين أو ليبراليين، أو من حزب النور أو من حزب التجمع، أو من جريدة «المصريون» أو من جريدة «الوطن»! وهذا التصور ضد التصورات العقدية الأخرى مثل اليهودية التى تنظر إلى الإله على أنه إله خاص بهم دون غيرهم؛ ومن هنا فهى غير متسامحة مع الآخر. ويبدو أن بعض المشتغلين بالسياسة من المسلمين أُعجبوا بالتجربة اليهودية فى شكلها الصهيونى الذى أقام دولة إسرائيل على أشلاء الفلسطينيين، فظنوا أن «الله» لهم فقط من دون الناس بل من دون سائر المسلمين. مرة كان يجلس أحدهم فى اجتماع أكاديمى معنا فى قاعة «لطفى السيد»، وهى قاعة مجلس جامعة القاهرة، وكنا نتحدث فى أمر يتعلق بالبحث العلمى والدراسات العليا، وكنا جميعا مسلمين؛ فوجه لنا الحديث -دون أن يكون للأمر أية علاقة بالموضوع المثار، ودون أن يأتى ذكر للإسلام- قائلا وهو فى وضع المتكبر المتعالى على الآخرين: «عندنا فى الإسلام»! فكان رد الفعل التلقائى «ضحكة عالية» لأنه يتحدث معنا كما لو كان هو المسلم ونحن كفار قريش! إن هذا الشخص الغريب التفكير لا يمثل نفسه فقط ولكن يمثل طائفة تفكر بالطريقة نفسها.. طريقة الفرقة الناجية الوحيدة، بل إنه يفكر بطريقة اليهود الذين يعتقدون أن الله معهم ولهم من دون الناس، وليس رب العالمين. هذه الطريقة فى التفكير ربما تفسر لنا سرا من أسرار استحلال القتل والتفجير، وهى طريقة تتناقض بشكل مطلق مع طريقة تفكير الرسول صلى الله عليه وسلم، الذى دعا لقبول كل من يشهد (أن لا إله إلا الله محمد رسول الله). روى البخارى ومسلم عن أسامة قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة من جهينة، فصبحنا القوم فهزمناهم، قال: ولحقت أنا ورجلٌ من الأنصار رجلاً منهم فلما غشيناه (تمكنا منه)، قال: لا إله إلا الله. قال: فكف عنه الأنصارى وطعنته برمحى حتى قتلته. قال أسامة: فلما أصبت الرجل وجدت فى نفسى من ذلك موجدة شديدة حتى رأيتنى ما أقدر على أكل الطعام حتى قدمت على الرسول.. وقال السدى: وكان الرسول إذا بعث أسامة أحب أن يثنى عليه خيرا ويسأل عنه أصحابه. فلما رجعوا لم يسألهم عنه، فجعل القوم يحدثون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون: يا رسول الله لو رأيت أسامة، وهو يعرض عنهم.فلما أكثروا عليه رفع رأسه إلى أسامة وقال: «يا أسامة أقتلته بعد أن قال لا اله إلا الله؟»، وفى رواية: «فكيف تصنع بلا إله إلا الله؟»، قال أسامة: قلت يا رسول الله إنما قالها خوفا من السلاح. قال: «أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أصادق هو أم كاذب؟». وعن ابن إسحاق: فوالذى بعثه بالحق ما زال يكررها علىّ حتى تمنيت أنى لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم! والآن فى عصرنا نجد المقتول الذى يستحل الإرهابى دمه لا يقول الشهادة فقط، بل يصلى ويصوم ويتصدق ويحج، أو ربما يدخر كل مدخرات حياته من أجل أن يحج.. ثم يأتى هذا الإرهابى ويقتله من أجل أن يقيم دولة الإسلام! وفى رواية لنفس الحديث تحدث رجل يفكر بعقلية الإرهابى الجديد فى عصرنا، فقال: ألم يقل الله: «وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله»؟ فقال سعد: قد قاتلنا حتى لا تكون فتنة، وأنت وأصحابك تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة. هذا هو فيصل الحديث: هناك فرق بين القتال من أجل منع الفتنة، والقتال حتى تحدث الفتنة. انظر إلى سوريا أو مصر أو اليمن.. أليست كلها إما فى الفتنة أو سائرة إليها بسبب الخوارج الجدد الذين يستحلون دماء المسلمين؟ والمفارقة أن العقيدة الإسلامية بطبيعتها متسامحة، ومع ذلك نجد بعض المسلمين أمعنوا فى الانتقام والقصاص بمعناه «الثأرى» لا بمعناه القرآنى الذى يكون فيه القصاص من أجل الحياة لا من أجل الموت. أين هؤلاء المتقمصون لدور الجهاد من قوله صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، من كان فى حاجة أخيه فإن الله فى حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة». رواه البخارى ومسلم وأبوداود. إن المسلم مثل أى مسلم، ولا تمايز بينهما إلا بالعمل الصالح، فأين «العمل الصالح» الذى قدمته القوى السياسية المتناحرة؟ وأين «العمل الصالح» من قتل المسلمين لبعضهم البعض فى مصر وسورياوالعراق وليبيا واليمن؟ هل «الاقتتال الإسلامى - الإسلامى» هو الذى سيقيم دولة الإسلام؟! ألم تتعظوا من تجربة الخوارج، وتجربة (على - معاوية) رضى الله عنهما؟! ألم تتعظوا من تجربة سقوط الأندلس؟ هل تريدون أن تصبح مصر مثل سوريا أو العراق، يموت رجالها، وتتشرد نساؤها، وييتم أطفالها، وتنهدم فوق رؤوس أهلها؟ إذا ضاعت مصر ستضيعون كلكم، وستضيع أسركم وتستحيى نساؤكم وبناتكم، لن تنفعكم أموال ولن تنفعكم أيديولوجيات تعتنقونها.. «وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً».. وعندئذ لن ينعم بجهادكم سوى إسرائيل وقوى الإمبريالية العالمية التى تقدمون لها أفضل خدمة فى التاريخ من أجل تحقيق مصالحها فى الشرق الأوسط الكبير التى لن تكتمل إلا بتفكك القوى العربية الواحدة تلو الأخرى. انتهى الدرس يا غبى..!!