هنا مسقط رأس الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، هنا قرية «بنى مر» فى أسيوط، قرابة 380 كيلومتراً جنوبالقاهرة، القرية التى يعرفها الجميع ويحبونها، والتى أصبحت منذ ما قبل العيد وحتى هذه اللحظة مسرح مجزرة دامية ومأساة حزينة، تعيش أيام دم وثأر، استقبلت خلالها مقابر القرية 6 قتلى فى يوم واحد، منهم 4 من أسرة واحدة. «الوطن» شدت الرحال إلى القرية التى نالت حظاً من اسمها «بنى مر»، والتى تقع على بعد 3 كيلومترات شرق مدينة أسيوط، وتبلغ مساحتها حوالى 4 آلاف فدان، لترصد وقائع المجزرة، حيث تحاصر قوات الأمن مداخل ومخارج القرية، وتنتشر فى شوارعها الرئيسية منعاً لتجدد الاشتباكات، فى الوقت الذى ضبطت فيه متهماً واحداً وتبحث عن هاربين. خلافات الجيرة وانتشار الأسلحة الآلية كانت سبباً رئيسياً للجريمة البشعة التى وقعت عند الإفطار، وخلفت القتلى الستة، وعلى رأسهم كبير هذه الأسرة المنكوبة وابنه «ثابت»، الذى كتب وصيته قبل مقتله بأيام، وكان على بعد خطوات من تعيينه وكيلاً للنيابة الإدارية، وكذلك اثنان من أشقاء كبير العائلة وصديق له، فيما أصيبت زوجته بطلقات نارية، وهى ترقد الآن فى مستشفى أسيوط الجامعى لا تعلم مصير زوجها وابنها. وفى غرفة مجاورة، يرقد ابنها «عبدالعزيز» مصاباً بطلقات نارية، لكنه يعرف جيداً ماذا حدث، ويعرف أيضاً كيف يخفى عن والدته -ولو مؤقتاً- خبر مقتل والده وشقيقه واثنين من أعمامه. رائحة الدم تطغى على المكان، الوجوم يكسو الوجوه التى لم تهنأ بعد الليلة الدامية بالعيد، حتى اللافتة التى تستقبلك عند مدخل القرية «بنى مر ترحب بكم» تحطمت، والمحال التجارية أغلقت أبوابها، والشوارع خالية إلا من سيارات الأمن المركزى. ساحة الحرب أو منزل «ثابت أحمد حصاوى» الذى شهد الواقعة تحول إلى «خرابة»، بعد أن لقى ربُ المنزل وشقيقاه وابنه مصرعهم، وأصيبت زوجته وابنه الأصغر، إثر اقتحام أفراد من عائلة «العتامنة» منزلهم، بعد أن أمطروه بوابل من الرصاص من بنادق آلية. أمام المنزل، التقينا شاهد الواقعة وأحد الناجين منها، إنه عبدالرحمن ثابت أحمد (20 سنة) طالب بكلية الهندسة، نجل المجنى عليه الأول وشقيق الضحية الثانى، والذى كُتبت له النجاة من الموت هو وشقيقه «عمرو». اصطحبنا «عبدالرحمن» إلى داخل المنزل، حيث آثار طلقات الرصاص ما زالت محفورة على الحوائط، والدماء تملأ المكان هنا وهناك. «مستحيل هاقدر أنسى منظر أبوى وهو مضروب بالنار طول عمرى، ثابت أخوى كان مضروب فى صدره، والضرب كان ب «غل»، اللى حصل ده زى الأفلام».. هكذا يتحدث «عبدالرحمن». ويضيف: «والدى كان متوجهاً إلى السوق لشراء بعض احتياجات المنزل، وفى طريقه إلى هناك كانت هناك سيارة تعطل الطريق يستقلها سائق ومعه آخر يُدعى «ناصر» من عائلة «حجازى»، حاول والدى المرور بسيارته وتصادف ذلك مع خروج شخص من عائلة «حجازى» من شارع جانبى، فسقط أمام سيارة والدى فجأة، فقام هو و«ناصر» بسب والدى الذى تمالك أعصابه ولم يأبه لهما، وغادر المكان على الفور». وتابع «عبدالرحمن» حكايته: «أحد المارة عاتب «ناصر» على سبه لوالدى، فرد عليه قائلاً «أحسن كده، أنا أصلاً بتتلكك له»، أى إنه يتصيد له أى خطأ، على الرغم من عدم وجود خلافات سابقة بيننا وبينه. بعدها وجدت والدى وقد حضر إلى المنزل والغضب يعلو وجهه، حاولت معرفة سبب غضبه فأخبرنى بما حدث، ولم نكن نعلم أن «ناصر» فى هذه الأثناء يعدُ العدة، ويحشد أقاربه وأبناء عمومته، وبعدها فوجئنا به يحمل سلاحاً آلياً والشرر يتطاير من عينيه، وهو يطلق بعض الأعيرة النارية تجاه المنزل، ولكننا لم نحرك ساكناً حتى لا ينجح فى جرنا إلى أى مواجهة معه، وهنا أخبرنى أحد أفراد عائلة «العتامنة» ويدعى سيد محمد محمود على أنه على خلاف مع «ناصر»، وأنه يريد الاستيلاء على البندقية التى بحوزته، فأجبته «ربنا يسترها دا إحنا فى رمضان»، وطلب منى أن أتصل به إذا تجدد إطلاق النار». و«لم تمر سوى دقائق معدودة - يتابع «عبدالرحمن» باكيا - حتى عاد «ناصر» مرة أخرى بصحبة شقيقه «عمرو» وأطلق الأعيرة النارية مرة أخرى تجاه المنزل، وبشكل عشوائى، مما نتج عنه مقتل «سيد» نفسه، فتجمع المارة من أهالى القرية فى محاولة للسيطرة على الموقف، وبحلول الساعة ال 6 مساءً نشبت مشاجرة بالأسلحة النارية بين عدد قليل من أفراد عائلتى «حجازى» و«العتامنة» فى محيط منزلنا، ونتج عنها إصابة أحمد عامر ووليد محمود عبدالعاطى وأسامة سيد عبدالرحيم، من عائلة «حجازى»، وهانى عبدالستار، وعلى عبدالعظيم، وعبدالستار أحمد عبدالستار وشهرته «اللول» من عائلة «العتامنة»، والأخير سقط أمامنا أرضاً واتصل بأبناء عمومته قائلا «أحمد ثابت قتلنى، أحمد ثابت موّتنى»، وكان يتحدث عن والدى مع أنه كان بعيداً عن مكان الحادث، ولم يكن يحمل سلاحاً. «هدأت حدة الاشتباكات بين الطرفين، يواصل «عبدالرحمن» حكايته، ودخلنا منزلنا ننتظر أذان المغرب لتناول الإفطار، وبعدها بلحظات فوجئنا بأفراد من عائلات «حجازى والعتامنة والجواكى» يحاولون اقتحام منزلنا، وقاموا بإطلاق الأعيرة النارية على الباب الخشبى وتمكنوا من الدخول وبعثروا محتويات الطابق الأرضى، واستولوا على أموال من الدولاب، وسط إطلاق مكثف للرصاص، ثم صعدوا إلى الطابق الثانى، حيث انتابتنا حالة من الهلع والذهول». وبعد لحظة صمت، يضيف محدثنا «أسرعت بالصعود إلى الطابق الرابع بصحبة شقيقى «عمرو»، وفوجئت بأن الجناة قد وزعوا المهام فيما بينهم، من حيث التأمين والتمشيط من خارج المنزل يتزعمهم محمد مصطفى عثمان الجاكى، السابق الحكم عليه فى جناية والهارب، وأن فريقاً آخر قام باقتحام المنزل مكون من ناصر تامر هاشم وعبدالستار أحمد عبدالستار الشهير ب «اللول». وبعد دقائق توقف سيل الرصاص، ونزلت أنا وشقيقى «عمرو»، لأجد المنظر الذى لن أنساه ما حييت، وهو أشلاء أسرتى التى مزقها الرصاص العشوائى». انهمرت الدموع من عينى «عبدالرحمن» حين تذكر المشهد الأخير، ثم أضاف «أنا شفت أمى مضروبة وواقعة جنب أخوى عبدالعزيز، وأبوى وأعمامى واقعين على بعض، و«ثابت» واقع عند الحمام، ولما وقفت عليهم سمعت أذان المغرب بينادى «الله أكبر.. الله أكبر»، هذا الأذان الذى كنت أنتظره حتى نتناول الإفطار سوياً، لكن ريحتهم ما زالت فى أنفى، وأنا الذى حملتهم ودفنتهم بيدى». ويحصى «عبدالرحمن» حصيلة الفاجعة بقوله «نتج عن المجزرة مقتل والدى أحمد ثابت حصاوى (55 سنة) وعمى «أنور» (60 سنة) وعمى «رفاعى» (58 سنة)، وشقيقى «ثابت» (23 سنة) الذى كان فى انتظار مقابلة «اللجنة السباعية» فى اختبارات هيئة النيابة الإدارية، وكان قد كتب وصيته قبيل وفاته بأيام، وأوصى فيها بتسديد ديونه، كما أصيبت والدتى رضا محمد عبدالعال، وشقيقى الأصغر «عبدالعزيز» بعدة طلقات نارية». ويستكمل «عبدالرحمن» حديثه المأساوى: «وقتها لم أجد سوى الاتصال بأى واحد من أصدقاء والدى لإنقاذنا، فاتصلت بصديق له يُدعى أحمد ياسين من قرية «الواسطى» المجاورة، وأخبرته بما حدث فرد: أنا جاى فى الطريق، لتكون نهايته على يدهم أيضاً». ويكمل «عبدالرحمن» حديثه «وصلت سيارة إسعاف إلا أن الجناة منعوها من الدخول وهددوا سائقها بالقتل، مما اضطره للرضوخ لأمرهم بالعودة من حيث أتى. وأثناء عودة السيارة تقابل معها أحمد ياسين صديق والدى، فأخبره السائق أن بعض الأشخاص منعوه من الدخول، فطمأنه أنه سيقنعهم. وبمجرد وصول أحمد ياسين إلى محيط المنزل اعترضه الجناة، ظناً منهم أنه يحمل سلاحاً، وحين تدخل جمال عبدالناصر، وهو عضو مجلس شعب سابق، ليبعدهم عنه، أمطروهما بوابل من الرصاص ليلقى الأول مصرعه فى الحال ويُصاب الثانى». ويختتم «عبدالرحمن» حديثه قائلاً «أنا عايز الحكومة تاخد لى بالتار، عايز أربى إخواتى الصغيرين، الناس دى بلطجية، أنا عايز أتجوز وأجيب ولد أسميه «أحمد» عشان اسم أبوى ميتمسحش خالص، إحنا بنتعرض لتهديدات منهم لغايت دلوقتى، هما عايزين إيه تانى؟، لقد أرسلت تلغرافات إلى رئيس مجلس الوزراء ووزير الداخلية والنائب العام ومحدش رد علىّ لحد دلوقت». أما «عمرو «(19 سنة) الناجى الثانى من المجزرة، فقال لنا إن «ثابت كان متديناً جداً، وكان محبوباً من كل الناس فى القرية»، وأضاف «حين وقعت أحداث رفح الأخيرة كان «ثابت» مبتهجاً، وقال لى: الحمد لله كده هيستدعونى فى الجيش وهاموت شهيد، «ثابت» ده أخونا الكبير، وكنا دايماً متعودين نشوف مسلسل الإمام الغزالى مع بعض، الله يرحمه». وأثناء سيرنا فى أحد شوارع القرية، لاحظنا بوضوح أن الوجوم يعلو الوجوه، وكأنها مولودة به، وحاولنا التحدث إلى بعض الأهالى لكن من تحدثوا إلينا رفضوا الإفصاح عن أسمائهم أو الخوض فى تفاصيل الجريمة، خشية التعرض لأى أذى من الجناة، خاصة أن لهم «سوابق إجرامية» معروفة للجميع هنا. «الوطن» انتقلت إلى منازل عائلة «العتامنة»، وتبين أنهم جميعا تركوا منازلهم إلى مكان مجهول، فتوجهنا بعدها إلى المستشفى الجامعى فى أسيوط، حيث ترقد السيدة رضا محمد عبدالعال والدة «عبدالرحمن» بعد إصابتها ب 5 طلقات فى البطن والساقين، هذه المرأة التى لم تعلم بعد أنها أصبحت أرملة وثكلى، فقد أخفى الجميع عنها نبأ مقتل زوجها ونجلها، وهى ترقد فى سريرها تستعجل من الأطباء إجراء العمليات لاستخراج الطلقات منها، حتى تتمكن من الاطمئنان على من تظن أنهم ما زالوا على قيد الحياة. تقول السيدة «رضا» بعد أن تتمالك نفسها قليلاً، «أنا كنت فى المطبخ باجهز الفطار... ولقيت ضرب النار محاوطنا من كل ناحية، ملقيتش حته أستخبى فيها، ولم أر فى حياتى كلها مثل هذا الإجرام من قبل»، مشيرة إلى أنها أجرت جراحتين ويتبقى لها جراحة ثالثة لاستخراج رصاصة من البطن، مختتمة حديثها معنا بقولها وسط دموعها المنهمرة «حسبنا الله ونعم الوكيل.. حسبنا الله ونعم الوكيل». وأما أشرف محمد (37 سنة) خال المجنى عليه، فتحدث لنا بكلمات قليلة، قائلاً: «المرحوم «ثابت» كان صديقى، وكان يستشيرنى فى كل حاجة، وأنا كمان كنت باخد رأيه، لأنه كان عاقل وحكيم... أنا فقدت أخ». وغادرنا القرية الصامتة، فيما تعلو وجوه أهلها الواجمين أمنيات عزيزة بعودة الأمن، وسرعة القبض على الجناة الذين اتخذوا من الزراعات مكاناً للهروب من طائلة القانون، حتى هذه اللحظة.