أغطية وأقمشة متهالكة صنعوا منها خيامًا للمبيت تقيهم حر الصيف ومطر الشتاء، وفرشوا بعض الحصر والأقمشة على الرصيف للجلوس عليها نهارًا والنوم عليها ليلاً.. في النهار يطول الحديث مع كوب من الشاي من المقهى المجاور لهم، وفي الليل يبدأ السمر والسهر، وقلما يغمض للعين جفن في شارع تجول فيه "الكلاب الضالة" والبلطجية، خاصة في الليل.. لم يكن هذا اعتصامًا لحزب من الأحزاب أو جماعة من الجماعات أو فئة من الفئات، وإن شئت فقل إنه اعتصام لا يحتاج إلى رخصة من وزارة الداخلية ولن تضطر قوات الأمن أبدًا إلى فضه، فهؤلاء جاءوا من محافظات الوجه البحري والصعيد لإجراء عملية القلب لفلذات أكبادهم في مستشفى أطفال مصر بحي السيدة زينب، وقرروا المبيت على رصيف المستشفى لأيام طوال تمتد لشهر كامل حتى يتعافى أبناؤهم، وهو ما لا يعرفون له موعدًا محددًا، فهذا بيد الله أولاً ثم بيد إدارة المستشفى التي تقرر متى يستطيع المريض مغادرة الرعاية وبالتالي مغادرة المستشفى مع أهله الذين يبيتون في الشارع انتظارًا لشفائه. بجلبابه الرمادي وشاربه الطويل جاء حمادة طاهر من المقهى المجاور للمستشفى عائدًا إلى أسرته في الخيمة، "أنا من محافظة المنيا وبقالي 14 يوم هنا عشان ابني بيعمل عملية في القلب"، هكذا تحدث "حمادة طاهر" ل"الوطن"، بلهجته الصعيدية قبل أن يجلس تحت الخيمة على الحصير التي افترشها هو وأشقاؤه الذين جاءوا معه. ويتابع قائلاً: "مضطرين نبيّت هنا، لو ابنك بيعمل عملية مستحيل تسيبوا وتروح آخر الدنيا حتى لو هتقعد شهر". وبلهجة هادئة يضيف: "احنا شايفين إن المستشفى مراعية عيالنا وبتعمل اللي عليها وإمكانياتها كويسة". لم يكن هؤلاء الأهالي على رصيف المستشفى رجالاً فقط، فقد كان من بينهم نساء أيضًا، فهذه فايزة أحمد هلال جاءت من محافظة الشرقية لإجراء عملية القلب لابنتها، "أنا هنا من 18 يومًا، بس الستات بتنام في أوضة فوق في المستشفى، واحنا بالنسبة لنا السفر سهل، بس بيبقى صعب على أهل الصعيد"، هكذا تقول فايزة وهي جالسة على حصير وبجوارها عدد من السيدات. وتتابع: "أهل الحتة هنا كويسين معانا ولما بيحصل أي احتكاك بيقفوا معانا ويساعدونا". سيدة أخرى من البحيرة- تدعى رشا الشحات وتقول إن ابنها في العناية المركزة منذ 12 يومًا- اقترحت أن يتم عمل عنابر ليقيم فيها الأهالي بالمجان بدلاً من نومهم على رصيف المستشفى "بالنسبة للرجال" وفي حجرة واحدة داخل المستشفى "بالنسبة للسيدات". "بنتي بقالها 25 يوم في المستشفى منهم 18 يوم في العناية المركزة لأن عندها ثقب في القلب وضيق في الشريان ورباعي"، عبارة قالها عاطف- ابن محافظة الشرقية الذي يعمل مبيض محارة- وهو جالس تحت الخيمة بجوار المستشفى مع عدد من الرجال. ويتابع: "بنتي عندها سنتين و3 شهور ووزنها 7 كيلو ونص مع إن المفروض يكون وزنها 15 كيلو على الأقل وتجري في الشارع، لكننا اكتشفنا إصابتها بأمراض القلب بعد 4 أشهر من ولادتها ولقينا صوابعها وشفايفها بتزرق فعرضناها على دكتور كبير في الزقازيق عندنا وحولها هنا لمستشفى أطفال مصر والعملية نجحت بعد ما استمرت 5 ساعات، بس لسه عند البنت بلغم على صدرها". ويقول عاطف في مرارة : "احنا متبهدلين، ليلنا زي نهارنا، ومنعرفش عيالنا هيخفوا امتى دي حاجة في علم الغيب، بس هنا أحسن من العمليات برة اللي بتعدي ال50 ألف جنيه.. هنا بيتكفلوا بتمن العملية واحنا بنشتري العلاج بس". ويقترح عاطف أن تسمح إدارة المستشفى للأهالي بالمبيت في المستشفى من الداخل بحيث يحميهم السور من البلطجية الذين يأتون من خارج المنطقة ويعتدون عليهم ويسرقون أموالهم ليلاً، بالإضافة للكلاب الضالة المنتشرة في الشارع. وعلى حصير بسيط، جلس حمادة - ابن محافظة سوهاج الذي يعمل في سوبر ماركت- وزوجته انتظارًا لابنهما الذي يبلغ من العمر عامًا والذي أجرى عملية في القلب أيضًا، "ابني عمل العملية وهو عيان من ساعة ما اتولد وحاليًا في العناية المركزة"، هكذا قال "حمادة". ويضيف قائلاً في مرارة "حاسين بتعب وزهق وأدينا مرميين في التلج أنا وأمه من الرصيف للرصيف، وما بيقولوش المريض هيخرج امتى". شعبان عبدالعزيز، سمكري سيارات من ملويبالمنيا، جلس هو ووالدته المسنة على قطعة من القماش انتظارًا لشفاء ابنه ذو ال6 أشهر والذي يعاني من ثقبين في القلب وضيق في الشريان، وقال إن ابنه أُجريت له العملية بنجاح وهو موجود حاليًا في الرعاية. ومن محافظة كفرالشيخ، جاء علي خطاب، الذي يعمل صيادًا، لإجراء عملية ثقب في القلب لابنه محمد منذ شهر و20 يومًا، وقال "ابني عمل العملية وهو دلوقتي في مستشفى أبوالريش الياباني للأطفال ووالدته معاه، وفاضل بس يركبوا له جهاز قسطرة لتنظيم ضربات القلب لأن الجهاز ده في المستشفى الياباني بس، واستنيت 15 يوم ومركبوش الجهاز وقالوا لي ممكن العملية نعملها جراحة بدل القسطرة". ويتابع علي قائلاً في مرارة: "أنا بطالبهم حتى يوفروا لأمه سرير بدل ما هي قاعدة على الكرسي في المستشفى الياباني، وأنا هنا مرمي في الشارع، واحنا ناس محترمة وبنشتغل". وأضاف: "ده غير إن تمن حقنة العلاج بيكون حوالي 380 جنيه وبيطلبوا حقنة واتنين وتلاتة واحنا فلوسنا على أد مواصلاتنا وأكلنا". وختم قائلاً "أنا لو أعرف حد من المسؤولين هروح له عشان جهاز القسطرة بتاع ابني اللي متأخر ده.. احنا نايمين في الشارع والبلطجية بيطلعوا علينا ساعات والكلاب بتكون حوالينا بالليل.. يرضي مين ده بس؟".