يبطن عنوان المقال أن الموجة الأولى من الثورة الشعبية العظيمة التى اندلعت فى يناير 2011 قد جرى اختطافها من قِبل بقايا نظام الحكم التسلطى والإفقار الذى قامت الثورة الشعبية لإسقاطه، ممثلة فى المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذى حكم المرحلة الانتقالية الأولى من دون سند دستورى تحت ستار حماية الثورة الشعبية وانتهى خصيما لها. ولمن لا يتذكر، فقد ترأس الطاغية المخلوع اجتماعا للمجلس هذا فى غرفة عمليات القوات المسلحة وكأن البلاد فى حالة حرب أذيع على الملأ عندما كان ما زال يأمل فى إرهاب التظاهرات المتعاظمة ضد نظامه، وتبعه تحليق الطائرات المقاتلة فوق رؤوس المتظاهرين فى الميادين. وقد انتهى المجلس إلى الحفاظ على النظام الذى كان ينتمى إليه بحذافيره تقريبا، بما فى ذلك مصالح المجلس نفسه. وفعل ذلك مستخدما كل وسائل الحكم التسلطى سيئة الصيت حتى إيقاع الشهداء دهسا تحت المدرعات وتعذيب المتظاهرين والحط من كرامتهم. ولم يألُ المجلس جهدا فى محاولة إرهاق النشطاء الذين واصلوا الاعتراض على تنصله من قسمه بحماية الثورة الشعبية. ولم يتخذ قرارات مناصرة للثورة إلا تحت ضغوط هائلة من حركات الاحتجاج الشعبى. غير أن الأخطر هو أن المجلس العسكرى قام بالتمهيد لصعود اليمين المتأسلم فى السياسة فى مصر من خلال السماح بأحزاب دينية قوام قياداتها إرهابيون أفرج عنهم المجلس بقرارات عفو فورية واستقدم غيرهم من المنافى وجعلهم من وجهاء البلد وواجهة الحكم. وسكت عن التمويل الهائل الذى تلقته هذه الأحزاب الناشئة من الغرب ومن قطر، وعندما تحرك متأخرا فأثار فضيحة التمويل الأجنبى، ولم ينقذه منها إلا مخرج خرق القانون على يدى قاضٍ كبير كرمه بعدها الرئيس الإخوانى بتقليده أعلى أوسمة البلد. وكانت محصلة حكم المجلس العسكرى للفترة الانتقالية الأولى تسليم البلد لتيار اليمين المتأسلم إما بداعٍ من توافقات محلية أو استسلاما لضغوط خارجية، ومن خلال انتخابات تتراكم القرائن على أنها شابها تزوير فاضح، ناهيك عن الغواية والإرهاب الزائفين تحت ستار الدين فى جميع الاستحقاقات الانتخابية التى قامت عليها خطة التحول الديمقراطى المعيبة التى ابتدعها المستشار البشرى واستنها المجلس وصمم عليها بمكابرة وصلف. وبصعود اليمين المتأسلم، بقيادة الإخوان الضالين، إلى سدة الحكم جاءت مرحلة جديدة من الحفاظ على نظام القهر والإفقار الذى قامت الثورة الشعبية لإسقاطه، أيضا بحذافيره، وبأحط أساليبه، يضاف إليه عنف الدهماء من ميليشيات أتباعه، مع جرعة سامة من الخداع باسم الإسلام. هم فقط أسدلوا على بنى القهر والإفقار غلالة رقيقة وزائفة من الإسلام الشكلى المقتصر على أداء الصلوات فى مواقيتها دون أن تنهاهم عن المعاصى، بل وارتكبوا بعض الكبائر، ما يجعل قويم الإسلام منهم براء. ما يعنينى هنا، حتى لا أسترسل فى تعداد جرائمهم فى حق الشعب والوطن، خاصة بعد إسقاط حكمهم بالموجة الكبيرة الثانية من الثورة الشعبية، هو أنهم لم يُمثِّلوا إلا حلقة من حلقات نظام الحكم التسلطى الذى قامت الثورة الشعبية لإسقاطه، بل جهدوا فى إعادة بعض ملامحه التى كانت قد توارت فى ظل حكم المجلس العسكرى ولو قليلا تحت ضغط الاحتجاج الشعبى. إذن، نظام الحكم الذى قامت الثورة الشعبية لإسقاطه بقى سليما وعفيا تحت الحكم العسكرى ثم تحت حكم اليمين المتأسلم، مما استدعى تتالى مويجات من الثورة الشعبية احتجاجا على تراكم المظالم التى استدعت اندلاع الثورة فى المقام الأول، بل اشتدادها. لذلك كان التطلع الشعبى عظيما لأن يمثل انتصار الموجة الكبيرة الثانية من الثورة الشعبية فى يونيو/ يوليو 2013 بداية جادة لهدم بِنَى الحكم التسلطى وإقامة بِنَى للحكم الديمقراطى السليم على أنقاضها تمهيدا للعمل بهمة على نيل غايات الثورة الشعبية العظيمة فى الحرية والعدل والكرامة الإنسانية للجميع على أرض مصر. لكن أخطاء السلطة المؤقتة القائمة على هذه المرحلة الانتقالية الثانية أفضت إلى أن تتوالى شواهد كثيرة مثيرة هواجس استعادة ذلك النظام التسلطى منتج القهر والإفقار لعامة الشعب بدلا من إحالته إلى الاستيداع وبناء غيره خيّر ينصر قوى الثورة ويناصر نيل غاياتها. تتضمن الشواهد سن قوانين تقييد الحريات الأساسية على يد حكومة مؤقتة كان يتعين عليها أن تتعفف عن إساءة استخدام سلطة التشريع التى آلت لها من دون تفويض شعبى، وهناك أيضاً اتساع دوائر القمع الأمنى، خاصة محاولة إنهاك النشطاء من جميع التوجهات السياسية بالقمع الأمنى - القانونى. فقد بتنا نرصد غول البطش الأمنى يتسلل أكيدا ولو وئيدا إلى الساحة السياسية المصرية، مُذكِّراً بالشهور الأخيرة من نظام الحكم التسلطى الذى قامت الموجة الكبيرة الأولى من الثورة الشعبية العظيمة لإسقاطه، ليهدد بإفساد خريطة المستقبل والحياة الديمقراطية السليمة على شعب مصر، خصوصا من خلال اضطهاد النشطاء السياسيين المعارضين للسلطة المؤقتة القائمة من الفصائل والتوجهات كافة ومن جميع الأجيال. وهناك أيضا عودة رموز النظام الساقط إلى الظهور العلنى والتبجح بالانتماء للمرحلة الجديدة، والاستعداد لحصد المناصب الانتخابية والتنفيذية فيها. تأكيداً، لستُ مع العزل السياسى لرموز المراحل السابقة على الموجة الثانية الكبيرة من الثورة الشعبية من دون حكم قضائى واجب النفاذ. ولكن أن يتبجح فتحى سرور، وهو من أكبر مغتالى روح الدستور والقوانين فى مصر، بإبداء الرأى علنا فى الدستور الجديد لأمرٌ يتجاوز طاقة الاحتمال والغفران. ويرهق روح التسامح أيضا أن يتحول الفاسد والمفسد الأكبر حسين سالم، المدان بأحكام قضائية والمطلوب للعدالة بمصر، حتى كانت حكومات سابقة تناقش مع الحكومة الإسبانية تسليمه من خلال البوليس الدولى، هو وأبنائه، لمصر إلى رجل أعمال «طيب وشريف» حسب النطق الرسمى لمجلس الوزراء المؤقت. فماذا يشفع لهذا الفاسد الأكبر، شريك الطاغية المخلوع وعصبته فى نهب دم وعرق المصريين، إلا ربما أنه كان ينتمى يوما إلى المؤسسة العسكرية؟ وحتى لا يُتهم الكاتب بالتجنى، فيكفى لمن يريد إنعاش ذاكرته ذكر أن المدعو قد جرى تهريبه من مصر بطائرة خاصة لم تكن لتقلع إلا من صالة خاصة فى مطار القاهرة كان يجب أن تكون مرصودة بإحكام من السلطات القائمة حينئذ، محملة بالأموال السائلة فى الأيام الأولى من الموجة الأولى من الثورة الشعبية تحت سمع وبصر المجلس العسكرى الحاكم وقتها. وقد غرّ السيد حسين سالم تلهف السلطة المؤقتة الراهنة على إعادة تأهيله على سحب عرضه السابق بتقديم نصف ثروته، وكلها منهوبة من المصريين، إلى الإحسان على السلطة بخمسين مليون جنيه فقط لقاء رد اعتباره ليست إلا فتاتا ضئيلا من ثروته المنهوبة. وكم يهون الوطن وتداس المبادئ لقاء بضعة جنيهات لمن لا يعلمون قدر هذه القيم السامية. لمن فى يدهم الأمر، رجاء، رحمة بالبلد وبأنفسكم فى النهاية، لا تسمحوا باختطاف الثورة الشعبية مرة أخرى لصالح أى أحد كان، ولو كان تحالفا مثل الذى قام فى المرحلة الانتقالية الأولى مع إحلال السلفية المتشددة محل الإخوان الضالين. وإن سمحتم فلن يسمح الشعب وستدفعون عواقب تسامحكم فى اختطاف الثورة الشعبية للمرة الثالثة. ألا هل بلغت؟