حين تفقد النخبة السياسية، شيوخاً وشباباً، بوصلتها، يخيب رجاء المجتمع، وتُصاب الدولة بالهشاشة، وأحد أبرز مظاهر فقدان البوصلة هو تضارب الأولويات والتركيز على هوامش الأمور واصطناع المعارك الإعلامية والسياسية، ونسيان الهدف الأكبر وهو مصلحة الشعب والدفع نحو التغيير السلمى والتمسك بالمصلحة العليا للوطن. وللأسف الشديد، ففى كثير مما يحدث فى مصر الآن ما يجسد مثل هذه البديهيات المؤلمة، وبالتالى علينا أن نشعر بالقلق من هذه النخبة، فاقدة البوصلة ذات النزعات الإقصائية، فبينما تواجه البلاد حرباً ضروساً ضد الإرهاب الدولى وضد الحقد الأعمى الذى تقوده جماعة الإخوان وحلفاؤها فى الداخل والخارج، نجد من يخرج علينا ليقول إن البلاد تواجه خطر عودة نظام مبارك، ويُصر على أن الأولوية هى لمواجهة هذا الخطر المزعوم، حتى لا تضيع الثورة. فضربات الإرهاب وحرب الاستنزاف التى يقودها التنظيم الدولى للإخوان المسلمين يجب أن توضع على قمة الأولويات الوطنية، وبدون إنهاء هذه الحملة الإرهابية بكل تداعياتها السياسية والأمنية لن تكون هنا لا ثورة ولا ثوار، وكلنا يعلم حجم التخطيط الذى وضعته جماعة الإخوان الإرهابية فى التخلص من النخبة السياسية غير المنتمية للجماعة وسجن بعضهم سنوات طويلة وإنهاك البعض الآخر فى المحاكم والدعاوى الكيدية. الأمر الذى انتهى بفضل الله تعالى والشعب المصرى بأكمله حين نزل فى 30 يونيو الماضى منهياً حكم الإخوان إلى غير رجعة. إن أولوية مواجهة الإرهاب تستدعى من كل القوى السياسة أن تفكر بطريقة مختلفة، طريقة تتسع بحجم الوطن كله، وتقوم على بناء جبهة مقاومة شعبية سياسية من كل مصرى يحب هذا البلد ويخلص له، وأن تساند بلا مناقشة المؤسسات المعنية بالمواجهة والتى تقف فى الصف الأول فى تلك الحرب العنيفة ضد أرض الكنانة، وفى ظل هذه الحرب لا معنى للتفكير الإقصائى ولا معنى للسلوك القائم على تفتيت المجتمع والتفرقة بين المواطنين، ومنح البعض منهم صكوك الوطنية، والبعض الآخر صكوك الخيانة أو الفشل أو عدم الرضاء الثورى. كذلك لا قيمة لكل من يتصور أنه المحتكر الوحيد للثورة أو يرى فى نفسه الوصى الأمين عليها. لقد انتهى عهد الوصاية على الشعب الذى أصبح سيد نفسه بلا جدال، كما انتهى عهد الوصاية على الثورة. يتناسى هؤلاء أن نظام مبارك قد سقط بالضربة القاضية، وأنه حتى لو أفُرج عن مبارك ونجليه وكل نخبته وأصبحت لديهم القدرة على الحركة العادية فى المجتمع، فلا أتصور أنهم يستطيعون العودة إلى الحكم أو مجرد التفكير فى ذلك، والمسألة ببساطة أن توازنات ومعادلات حكم مبارك قد ذهبت إلى غير رجعة، وأبرز هذه التوازنات تكمن فى الشعب المصرى نفسه ونُضجه السياسى وقدرته على الحركة فى مواجهة السلطة، لقد انفجرت طاقات الشعب بلا سقف، وأصبحت لديه القدرة على الفرز وتصحيح الأوضاع أولاً بأول، وما حدث مع نظام الإخوان البائد الذى لم يستمر سوى عام واحد فقط، ثم سقط أيضاً بالضربة القاضية على يد الشعب بكل طوائفه، ليس سوى دليل ساطع على النضج المجتمعى والتحرك الفاعل فى اللحظة المناسبة. لقد سقط نظام مبارك بلا رجعة، تلك حقيقة تاريخية ليست قابلة للنقاش، وبالتالى فإن التلويح بالخوف والقلق من عودة نظام لم يعد موجوداً لمجرد أن شخصاً أو أكثر ممن كانوا قريبين من رأس النظام الأسبق بحكم العمل الوظيفى أو السياسى ظهروا فى الإعلام أو قالوا تصريحات معينة، لهو أمر مثير للشفقة. إذ كيف لثورة ما زالت حية فى نفوس المصريين جميعاً أن تخشى حديثاً تليفزيونياً أو مقالاً صحفياً أو حواراً منشوراً فى وسيلة إعلامية أو صحفية خاصة ولا علاقة لها بالدولة يتحدث فيه شخص ما عن ذكريات ذاتية لا أكثر ولا أقل، وكيف لثورة تدعى أنها حققت معجزات كبرى أن تُصاب بقلق وعصاب ذهنى من مجرد تحرك سياسى لعدة شخصيات لم يثبت عليهم أى جرم، فضلاً عن أن الدستور الجديد لم يقصِ أحداً ما دام غير محكوم عليه بحكم قضائى بات. إن توجه بعض النخبة التى تربط نفسها بالثورة لسد منافذ التحرك السياسى لمجموعات بعينها لم تمارس الإرهاب الفكرى أو المادى، كما تفعل جماعة الإخوان وأعوانها، يعكس تفكيراً إقصائياً بامتياز يتنافى مع الثورة وشعاراتها الأساسية، لا سيما مبادئ الحرية والعدالة الانتقالية والكرامة الإنسانية. هذا التفكير الإقصائى لا يبنى وطناً، ولا يُرشد أداء المجتمع، ولا يضيف لحركة التاريخ سوى المعاناة والألم. كما يجعل المُنادين به أسرى الفشل، لأنهم يخشون المواجهة ويسودهم الشعور بفقدان الظهير المجتمعى، ولذا يسعون دائماً إلى من يُخلى الساحة أمامهم ويريدون من مؤسسات الدولة أن تتورط فى معارك مع جزء من الشعب من أجل أن يسودوا هم بلا ثمن أو على الأقل يدفعون ثمناً محدوداً، ومعروف أن هؤلاء الذين يريدون من الآخرين أن يديروا معاركهم ويأتوا لهم بالانتصار الكبير دون معاناة هم الأكثر تفريطاً فى المصلحة العليا. ومن يريد الحكم عليه أولاً أن يزرع لنفسه جذوراً عميقة فى وجدان المواطنين وعقولهم وأن يذهب إلى كل مواطن لا أن يطالب بمنع الآخرين من التواصل مع المجتمع، باختصار عليه أن يبنى شعبيته الجارفة التى تأتى به إلى سدة الحكم، فالمعارك السياسية الكبرى المتعلقة بإعادة بناء الوطن تقوم على المواجهة المباشرة وليس النحيب والإفراط فى الشكوى الممهورة بالدموع. وعلى النخبة المصرية شيوخها وشبابها أن تعيد النظر فى تقييمها للشعب وقدرته على حسن الاختيار، وحتى لو افترضنا أن رمزاً أو أكثر من رموز الزمن المباركى قرر خوض الانتخابات البرلمانية المقبلة، وحتى لو فاز بعضهم بمقاعد برلمانية، فهل يعنى ذلك أن عقارب الساعة قد عادت إلى الوراء؟ بالقطع لا، فالأشخاص لا يتحركون سياسياً فى فراغ أو عدم، بل فى ظل بيئة ذات معادلات وأسس تتناسب مع طبيعة اللحظة الزمنية ومدخلاتها الرئيسية، ولا يشك أحد أن المدخلات الراهنة هى مدخلات الثورة والتغيير وعدم الرجوع للماضى والنظر إلى المستقبل بعين ثاقبة وأخرى واعية.