لسنوات قريبة أو بعيدة قادمة، ستظل ثورة 25 يناير موضع جدل يعلو أحياناً ويخفت أحياناً أخرى، لكنه «جدل مركزى» ستدور حوله الأحداث، وتتباين المواقف، وتتفاوت الآراء. ومهما يكن الرأى حول ما جرى فى 25 يناير 2011 وتكييفه السياسى. أهى ثورة شعبية حقاً، كانت لها ضروراتها الوطنية، ودوافعها السياسية والاجتماعية أم حدث جرى تدبيره، والتمهيد له وتوظيفه فى مراكز صنع القرار الأمريكى، ضمن اختبار تجريبى لمبدأ «كوندوليزا رايس» الذى ذاع صيته، فى مطلع الألفية الثالثة، وهو مبدأ «الفوضى الخلاقة» الذى خُطط لأن يكون أداة تفكيك وإعادة تركيب للشرق الأوسط وكأنه لعبة كرتون؟! وحتى لا نقفز إلى إجابة غير محسوبة، تنتهى بنا إلى تناقض يعنق الاشتباك ولا يفضه بين القائلين بالثورة والمشايعين للفوضى ونظرية المؤامرة، لا بد أن نستبق الإجابة بسؤال جديد. هل الظروف الموضوعية فى مصر كانت ناضجة لمثل هذا الانفجار الثورى المدوى فى 25 يناير 2011، فأسقط دويه نظاماً شاخ فى مقاعد الحكم، وتقطعت بينه وبين شعبه الأسباب؟ نعم كانت الظروف الموضوعية ناضجة لثورة شعبية لا تُبقى ولا تذر، وكانت الأجواء -حتى قبلها بسنوات- تنذر بعاصفة رعدية عاتية تقتلع الأشجار المعمرة التى نخرها الفساد والاستبداد من جذورها، لكن «علم الثورة» يخبرنا بأن الظروف الموضوعية وحدها -ومهما بلغ نضجها- لا تكفى لإحداث تغيير جذرى فى الاتجاه الذى يحقق أهداف الجماهير ومطالبها الثورية، ما لم تكن القوى الذاتية المسكونة بحلم التغيير، من منظمات وحركات وأحزاب وقيادات، ناضجة هى الأخرى وواعية ومنظمة ومبادرة إلى الحد الذى تسارع فيه -قبل أن يُغدر بالثورة- ببناء نظامها الجديد، بدلاً من أن تكتفى بالرقص على رفات النظام البائد القديم، وحول أطلاله الدارسة، وإلا وجدت «الثورة المغدورة» (مع الاعتذار ل«تروتسكى» صاحب كتاب «الثورة المغدورة» الذى ألفه فى معرض خلافه مع «ستالين»!) وجدت نفسها فى أحضان أعدائها المنظمين الجاهزين المتربصين المختبئين خلف أقنعة الثورة وشاراتها وشعاراتها. فى تاريخ الثورات كان الدراويش والانتهازيون والفوضويون والمحافظون يتسللون -فى جنح الليل- إلى مخدع الثورة، بينما الثوار سكارى بخمرة النصر على أعدائهم من سدنة النظام القديم، ويظفرون وحدهم بالغنيمة قبل أن يفيق الثوار. وغالباً ما يكون كل هؤلاء الانتهازيون والفوضويون والمحافظون «تروساً» محلية فى «ماكينة» أجنبية! وكل الثورات الكبرى فى التاريخ جرت محاولات لتوظيفها وإعادة توجيه مسارها وجهة مختلفة غير التى كانت تقصدها، وغالباً فى اتجاه يخالف غاياتها ويتعارض معها، حتى ثورة 23 يوليو 1952 نفسها سارعت الولاياتالمتحدةالأمريكية، والثورة فى مهدها، لركوب موجتها وتوجيه دفتها، وبادرت لاحتوائها وتوظيفها والالتفاف عليها. «وبرج القاهرة» شاهد باقٍ يناطح السماء على «العربون» الذى «تورّطت» فيه المخابرات الأمريكية فى الخمسينات من القرن الماضى لوأد مشروع الثورة فى الاستقلال الوطنى، فبقى المشروع ووئدت المؤامرة. وفى 25 يناير 2011 وجدت القوى المحافظة وغير الثورية غنيمتها فى الفراغ الناجم عن غياب أب شرعى للثورة، وتنظيم ثورى يسند ظهرها، وقائد ينظم صفوفها ويحدد أولوياتها، ويرسم لها خارطة طريق. ووجدت المصالح الأمريكية المتحفّزة فى هذه القوى المحافظة ضالتها المنشودة لإحياء مشروعها القديم الجديد لشرق أوسط مستأنس خالٍ من كل ما يعكر صفو هذه المصالح، ويضمن بقاءً آمناً لإسرائيل. ولا بأس أن تتجاوب الولاياتالمتحدة مع أشواق الإصلاح، وتعوم على أمواج التغيير الجارفة حتى لو اجتاحت نظماً صديقة، تفانت فى خدمتها، وتحمّلت غضبة شعوبها إرضاءً لها. المهم أن يكون التغيير بشروطها، مصنوعاً على عينها، وتحت بصرها، وغالباً ما يكون برجالها. كانت تلك بالضبط خلاصة تجربتها مع «الثورات الملونة»، من ربيع براغ إلى الربيع العربى. والفرق بين الربيعين فى الألوان. فى الربيع الأوروبى كانت الألوان زاهية بهيجة، وردية وبرتقالية وقرمزية! وفى الربيع العربى فقدت الألوان بهجتها، فلم نعد نرى فى سماوات العرب وميادين «تحريرهم» غير أعلام «القاعدة» السوداء! لكن فى التجربتين الأوروبية والعربية كان الهدف واحداً وهو بناء نظم طيعة صديقة مقبولة من شعوبها، بدلاً من أن تُترك تلك الثورات لقوى ثورية حقيقية تأخذها بعيداً نحو فضاءات ثورية وراديكالية مفتوحة فى عدائها للغرب بغير أفق. كانت الأجهزة الأمريكية قبل عقدين ترصد وتتابع تفاعلات الشارع العربى، وتقدّر وتقيس نمو موجات الغضب الشعبى، وتتبع ظهور وتصاعد الحركات السياسية والشبابية الجديدة. وكانت الولاياتالمتحدة بين خيارين؛ إما أن تتركها، تنضجها التجربة والخطأ حتى تبلغ غايتها، وهو خيار غير مضمون العواقب، أو أن تعيد إنتاجها وتوجيهها إلى حيث تريد، وهو الوصول إلى نظم طيعة صديقة، يمكن توظيفها فى «تمرير» المشاريع التى عجزت النظم التقليدية الصديقة عن تمريرها. بعض تلك الحركات السياسية، وليس كل، أعيد إنتاجها و«تسريع» نضجها فى «صوبات» أمريكية، و«حضانات» ديمقراطية؛ صربية وأوكرانية، يقوم بتوريد كوادرها المبتسرين سياسياً المعهدان الديمقراطى والجمهورى الأمريكيان بالقاهرة، اللذان كانا يعملان تحت سمع وبصر نظام حكم آيل للسقوط! وكان سفير صربيا فى القاهرة يتحرك بين هذه الجماعات والحركات من دون تحفّظات دبلوماسية تقيّده! كانت تلك هى توعية ثوار «الصوبات» و«الحضانات» الأمريكية، التى أريد لها أن تجر الثورة بعيداً عن أهدافها، وأن تعيد توظيفها وتوجيه مسارها، وتنهكها حتى تسقط ثمرة طيبة فى حجر الجماعة الوحيدة المنظمة، جماعة الإخوان المسلمين، التى أدمنت -منذ قامت- خيانة الثورة والثوار، حتى الثورة التى اختطفتها وغدرت بها، ثورة 25 يناير وراحت فى ذكراها الثالثة تذرف عليها دموع التماسيح، بعد أن استردها أصحابها الشرعيون فى 30 يونيو 2013، وصار لها رب يحميها.