لكل أمة أناشيدها وأغانيها التى ترافقها فى أحداثها الجسام، أو فى فترات التغيرات الجذرية سلما وحربا، ففى الأمة العربية كان المحارب غالبا شاعرا يصف ويمجد بطولته أو بطولة فرسان قبيلته، أو حتى ما ينبغى أن يكون عليه المحارب من شجاعة وفروسية وإقدام، وكان الشاعر كالمراسل الصحفي فى زماننا يسجل المعارك فى قصائد شكلت ما يعرف ب"أيام العرب"، وكان هذا الوصف بمثابة التشجيع على الإقدام فى الحروب وخوض غمارها، ومن يرجع لما عرف بشعر الحماسة يجد الشعر الذى هو مادة الغناء ركيزة أو أداة أساسية كالخيل والنوق والسيوف والأقواس والنبال والرماح فى كل الحروب التى مرت بالعرب منذ القدم، بل إن وقع الشعر فى النفوس لم يكن يقل إن لم يكن أشد وأقوى من صهيل الخيول وصليل السيوف نظرا لتأثيره فى نفس العربى الذى كان يرى الموت أهون عليه من عار تخلده قصيدة تتغنى بها العرب وكانت القصائد تستخدم فى إلهاب مشاعر المحاربين وتحميسهم وتذكيرهم بالمجد الذى يصنعه النصر وبالعار الذى تخلفه الهزيمة، أما نحن المصريين فقد لعبت الأغانى والأناشيد الوطنية دائما الدور الكبير فى تحفيز وشحذ همة الناس وتذكيرهم بحضارتنا ومجدنا العظيم، فى أوقات الهزيمة وفى أوقات النصر فى المظاهرات وفى الثورات التى أحيت الأناشيد والأغانى التى ظن أن تأثيرها قد خمد فى نفوس المصريين فإذا بها تشتعل وتشعل الميادين. وفى الوقت الذى تواجه فيه مصر حربا ضروسا إذ تدبر المؤامرات وترسم المكائد للنيل من وحدتها ووحدة جيشها ولا يقتصر ذلك على التصريحات الإرهابية لجماعة الإخوان، وإنما يمتد إلى الأفعال الإجرامية من قتل لضباط الجيش ومجنديه وهتافات معادية لقادته، هتافات حبلى بحقد كريه بغيض، وكتابات على جدران البنايات والأرصفة تنضح بغل أسود يحاول تشويه قامات وطنية، وثورة خرج فيها ملايين المصريين يدافعون عن كرامتهم وحقهم فى الوجود عن مستقبلهم وهويتهم وتاريخهم وتراثهم وفكرهم الوسطى عن ميراث أصيل من التنوير والحضارة والثقافة الضاربة فى أعماق الماضى البعيد فى هذا الوقت، وفى هذه اللحظة الفاصلة من تاريخنا الحديث ولد أوبريت " تسلم الأيادى" للفنان مصطفى كامل، فكان صفعة فى وجه مم يمارس من محاولات لتشويه وتزييف الوعى والذاكرة المجتمعية لأنه يمثل ملحمة وطنية تحمل حبا وتقديرا وعرفانا بالجميل من الشعب لجيشه الوطنى البار به وبأرضه فوحد ذكاء الفنان الشعب المصرى حول مضمون واحد فصار نشيدا وطنيا يغنى فى كل مكان فى الطرق والعمل والبيوت والنوادى والمحلات ويحمله المصرى على هاتفه الجوال ويستخدمه نغمة رنين له، وتصدح به مكبرات الصوت فى وسائل المواصلات، فتسمعه فى محطات المترو والترام والسيارات العامة والخاصة والموتسيكلات و"التوكتوك" ويتنافس السائقون فى تشغيله، حتى أصبح عندهم دليلا على الوطنية وحب مصر، بل على المصرية نفسها فإذا طلبت من أحدهم خفض الصوت نظر إليك فى ريبة متسائلا : هو إنت مش مصرى ؟ إنت إخوانى صح؟ وتضطر إلى القسم المغلظ على مصريتك ويبهرك اكتشاف المواطن المصرى البسيط بحسه الوطنى الساذج أن الانتماء للإخوان يتناقض مع الانتماء لمصر أما الأفراح والحفلات فلا يمر أحدها إلا وقد صدحت الفرقة التى تحييها به حتى تستطيع أن تسمعه من شارع أو بلد آخر، وكثيرا ما يتسبب ذلك فى شجار مع أحد الإخوان الكاره لسماعه والناقم على مضمونه وقد نال كثيرون -حتى من الأطفال -ضربا مبرحا بسببه. ويرجع انتشار هذا الأوبريت الغنائى إلى عدة عوامل أولها بساطة لغته وشعبيتها وقربها من وجدان المصريين ومفرداتهم اليومية حتى إن عبقرية الشاعر التى تشى بإدراك عبقرى ووعى فز قد اختارت له عنوانا يمثل فى الأساس دعاء شعبيا مصريا، فمن منا لا يردد عند الشكر أو الامتنان على جميل يقدم له "تسلم الأيادى". يتكون هذا الأوبريت من مذهب "مقطع متكرر" وهو "تسلم الأيادى تسلم يا جيش بلادى".. يتكررهذا المذهب غالبا مرتين بعد كل مقطع وأحيانا مرة واحدة وتكرر معه "مصر" ويمتاز هذا المذهب ببساطته ويسره وموسيقاه الرقيقة التى ولدها الجناس بين "الأيادى وبلادى" و تكرار "تسلم"، هذا الدعاء الشعبوى المفعم بالحب والإخلاص والوفاء، فمن البديهى أننا لا ندعو إلا لمن نحب ولذلك قابله الطرف الآخر الكاره الناقم بدعاء على ممدوح الأوبريت ينضح بما تكنه نفسه لهذا الممدوح ومايمثله. وغير المذهب، يتكون الأوبريت من سبعة عشر مقطعا يوازن الشاعر فيها بين حب مصر وحب الجيش موازنة نابعة من إيمان المصريين وعقيدتهم الراسخة بأنه لا انفصال ولا تناقض بين الحبين بل كلاهما لا يكتمل إلا بالآخر، فمن يحب الجيش ويغنى له هو بالضرورة يحب مصر ويغنى لها والعكس، وهنا تتأكد أيضا صحة حجية المفهوم المخالف للحب، فمن يكره الجيش ويدعو عليه ويرجو تفككه يكره مصر ويرجو خرابها فلا جيش بدون مصر ولا مصر بدون جيش، ومن قال غير هذا فهو كاذب أو واهم. كما يوازن الشاعر بين الماضى والحاضر فيذكر تاريخ الجيش وحاضره فى حماية مصر وتحريرها وصيانة الأرض والعرض والمال، ويمدح أيضا الفريق السيسى باعتباره جزءا من حاضر الجيش المصرى. فى المقطع الأول من هذه المقاطع السبعة عشر الذى يقول فيه الشاعر: هودا البطل اللي ضحى بالحياة اللي شال اسمك يا بلدى من زمان اللي حامى الأرض يسلم اللي صان العرض يسلم اللي بيهم مصر دايما تفتخر وتقول ولادى يبدأ بالإشارة إلى الجيش باعتباره البطل "هو ده البطل" الذى ضحى بحياته من أجل مصر والذى تعهد بحمل اسمها ورفعته وهو الذى حمى الأرض، وصان العرض فوجبت تحيته وتكرار الدعاء له بالسلامة وهو كذلك مصدر فخر لمصر، فالفخر قرين النصر الناتج عن حماية الأرض وصيانة العرض. مارس الشاعر فى هذه القصيدة "الأوبريت" عملية تذكير واسعة فعرج على التاريخ داعيا إلى فتح كتابه وممارسة عملية الحكى لأجيال لم يعاصر الكثيرون منها صناعة هذا التاريخ حكى ينعش الذاكرة - التى يراد لها أن تشوه ويخفت عملها - بماضيها المجيد وبمن رد لها اعتبارها ودافع عن كرامتها فى حرب 1973، التى تمثل رمزا للكرامة والانتصار عند الشعب المصرى يقول: افتحو لنا كتاب تاريخنا واحكو للناس دولا مين قول يا أبونا و قول يا شيخنا يعنى إية 73 اللي ردولنا اعتبارنا وربك كان ليهم معين ولا يقتصر هذا الإنعاش على كتب التاريخ وحدها، وإنما يمتد إلى رمال سيناء التى تحولت فى صورة الشاعر إلى إنسان يسأل ويجيب، وأنسنة هذه الرمال توحى بقربها من نفوس المصريين، ولذلك فإنها ستبادر إلى الإجابة وإظهار الحقيقة، والحديث عن الدماء التى روتها، فاختلط على أرضها دم المسلم والمسيحى وأبناء العمومة والأخوال والأصحاب يقول: اسألو الرمل اللي فى سيناء انت مروى بدم مين دم حنا ولا مينا ولا دم المسلمين ابن عمى وابن خالى وصحبى من عشرة سنين وتمتدح القصيدة الفريق السيسى كونه جزءا من حاضر هذا الجيش وتدعو له بالسلامة، لأنه أقسم بصوت عال يوحى بالشجاعة والقوة على رد جميل بلاده عليه وإصلاح حالها المعوج حتى لو كان الثمن حياته، لأنه كان يدرك جيدا التاريخ الدموى لهذه الجماعة فيعرف أنها اغتالت وحاولت اغتيال كل من تصدى لها قديما، ما يعنى أنه اتخذ قراره بالوقوف فى وجهها وهو يدرك أن الثمن قد يكون حياته ففى سبيل تحرير مصر من حكم الإخوان استوى لديه حياته وموته: تسلم ياللي شيلها ياللي حلفت ترد جميلها وقولت المايلة لازم نعدلها ب علو الصوت تسلم ياللي رفعت ريتها وقدرتها ودفعت قيمتها إن شاء الله تكون نهايتها حياة أو موت تسلم لولادك وولادي وبعد هذا الدعاء يحدث ربط بين هذا البطل السيسى وبين من دافع عن مصر أو بين تاريخ الجيش، وكأن دور السيسى ما هو إلا استكمال لدور الجيش وقادته العظام فى حماية الوطن والدفاع عنه، فصمموا على الانتصار وتفريح مصر وحمل السلاح ولم يسامحوا فى احتلال أرضه ويكرر الشاعر قوله "هو دا" فى المقطع الأول إشارة إلى الجندى المصرى اعترافا و تذكيرا وتمجيدا له يقول: هو دا اللي في يوم جراحنا قالها حى على الكفاح قالى رايح أجيب فرحنا كان على صدره السلاح قالى مصر قالتها واحنا أبدا مقبلش السماح ويعد المقطع "السادس" أروع هذه المقاطع وأسرعها دخولا إلى نفس المتلقى لصدقه وشدة تعبيره عن الواقع حيث يقول فيه: وإحنا تايها الدنيا بينا رن صوت مليان حنين قال دى تتقطع إيدينا لو تمس المصريين قالها راجل وابن راجل والله وفيت باليمين ففى هذا المقطع يصف بصدق حالة التوهان التى مرت بها غالبية الشعب المصرى والتى نتجت عن تهديد ووعيد جماعة الإخوان وأنصارهم بالويل وعظائم الأمور، إن تجرأ المصريون ونزلوا إلى الشوارع ثائرين مطالبين بمغادرة مرسى وعشيرته ولا يخفى مافى قوله "إحنا" التى تعبر عن جموع الشعب المصرى من ترابط نفسى واشتراك فى التوهان وفى هذه الحالة حالة الخوف والقلق، رن صوت الفريق السيسى حاملا الأمان والتطمين للشعب المصرى، فأشعرهم بأنه هناك من يشعر بألمهم ومعاناتاهم والهم الذى تحملوه. وتستمر مقاطع الأوبريت الغنائى فى براعة فنية فائقة فى تحية الأبطال وأم الشهيد كما لاينسى تحية الأحزان والشدائد التى أظهرت الرجال.