إن أكبر مشكلة يواجهها الآن العالم الإسلامى هى مشكلة العقول المغلقة التى تكونت فى ظل أنظمة تعليمية متخلفة تعتمد على استرجاع المعلومات، وكأنها أجهزة تسجيل أو «هاردات»، وليست عقولا تبحث وتفكر وتوازن وتختار وتبتكر. ويزداد التحدى أمام أعيننا فى مصر؛ خاصة مع الوضع الخطر الذى يشير إلى ارتفاع نسبة الأمية فى بلادنا رغم مرور أكثر من قرنين على بدء عملية التحديث التى بدأتها مصر مع مطلع القرن التاسع عشر، ورغم مرور قرن ونصف تقريبا على مشروع على مبارك ولائحة إصلاح التعليم عام 1868، وستة وسبعين عاما على كتاب «مستقبل الثقافة فى مصر» لطه حسين عام 1938. وتزداد المشكلة تأزما مع خروج معظم جامعاتنا من التصنيفات الدولية. ولا يمكن تجاوز هذه الحالة من العقم التعليمى دون التحول السريع والجذرى إلى مناهج جديدة عصرية تستفيد من مناهج الدول المتقدمة، وتطبق طرق التعلم الحديثة التى تستهدف تكوين عقول منهجية مفتوحة، وبناء شخصية إنسانية متوازنة الأركان: روحا وجسدا ووجدانا ونفسا تحت قيادة عقل واع يقود ويوجه؛ فصنع الشخصية القادرة على العمل السياسى والفكرى والإدارى هو مهمة العملية التعليمية؛ لأن التعليم هو العامل الأكثر تأثيرا فى معادلة الشخصية. وهنا يأتى دورنا فى تكوين شخصية تتحكم فى مستقبلها، تنظر له ولا تخشى خوض تجاربه على أساس من الإرادة الحرة واستقلال الذات. وبهذا يتكون لدينا رأس مال بشرى Human Capital حقيقى يتمثل ليس فقط فى «كم» الأفراد ذوى المهارات والقدرة على الإنتاج والمتعلمين والمثقفين، بل يتمثل كذلك فى «نوعيتهم وكفاءتهم». ولعل هذا التصور قريب من المعنى الذى كان يقصده طه حسين عندما ذهب فى كتابه «مستقبل الثقافة فى مصر» إلى أن «معاهد العلم ليست مدارس فحسب، ولكنها قبل كل شىء، وبعد كل شىء، بيئات للثقافة بأوسع معانيها؛ ولذلك فإن الجامعة بيئة لا يتكون فيها العالم وحده، وإنما يتكون فيها الرجل المثقف المتحضر الذى لا يكفيه أن يكون مثقفا، بل يعنيه أن يكون مصدرا للثقافة، ولا يكفيه أن يكون متحضرا، بل يعنيه أن يكون منميا للحضارة، فإذا قصّرت الجامعة فى تحقيق خصلة من هاتين الخصلتين فليست خليقة أن تكون جامعة، وإنما هى مدرسة متواضعة من المدارس المتواضعة وما أكثرها». وفى إطار الرؤية السابقة، ولمواجهة التحديات الراهنة، يجب أن يكون لدينا سبعة أهداف: 1- بناء شخصية المواطن باعتبارها جوهر الدولة من خلال تكامل تأهيل الطلاب علميا واجتماعيا وثقافيا. 2- أن يكون التعليم من أجل الوعى النقدى Education for critical consciousness؛ حيث تعميم التعليم الحوارى فى مقابل نبذ التعليم البنكى. 3- تحديث الكيان التعليمى ليضاهى المستوى العالمى طبقا للمعايير الدولية فى الجودة وتقييم القدرة المؤسسية. 4- تدعيم البحث العلمى والتقنى واستثماره فى التنمية الإنتاجية، وتوسيع نطاق التعاون مع قطاع الصناعة، وتوجيه الأبحاث نحو تعزيز الخدمات العامة والحكومية. 5- تعميم توظيف تكنولوجيا المعلومات والاتصالات فى التعليم، وتحقيق التكامل بينها وبين الموارد البشرية المتميزة. 6- دعم علاقات الشراكة وبرامجها مع المؤسسات الدولية ومنظمات المجتمع المدنى. 7- التدريب المستمر للهيئات التدريسية والأكاديمية والقيادات، والاهتمام بالمعلمين وأعضاء هيئة التدريس ورفع دخولهم وتقديم الرعاية الصحية لهم ولأسرهم. وتحقيق هذه الغايات غير ممكن دون توحيد منظومة التشريعات الحاكمة للتعليم، من خلال قانون عام موحد للتعليم، ولائحة تنفيذية موحدة ودقيقة وواضحة، تمثل مظلة عامة حاكمة، على أن تسمح فى الوقت نفسه بلوائح خاصة لمؤسسات التعليم والجامعات تظهر الشخصية المستقلة لكل منها فى إطار أهدافها الاستراتيجية، كمؤسسات اقتصادية لها كامل الحرية الأكاديمية والإدارية والمالية فى إطار من الشفافية والمحاسبة المجتمعية، ومن خلال تصورات فاعلة تحدد أدوار ومسئوليات الجهات الحاكمة فى إدارة التعليم العالى وخلق الكيانات القادرة على إدارة حديثة للمنظومة تحقق أهداف الخطة الاستراتيجية بالكفاءة المطلوبة، على أن يكون للكليات والكيانات التعليمية لوائح داخلية تتيح لها الإدارة الذاتية واللامركزية، للتخلص من البيروقراطية المزمنة التى تمثل إحدى أهم مشكلات التعليم فى بلادنا. وبما يضمن لمنظومة التعليم المرونة والكفاءة والفاعلية والقدرة على المنافسة. ويحزننى أن أقول إنه لا يوجد لدينا حتى الآن استراتيجية قومية واضحة ومحددة، بل لا توجد فلسفة اجتماعية تتحدد بناء عليها فلسفتنا سواء فى التربية أو التعليم أو البحث العلمى. ولذا لكى تتحقق تلك الغايات لا مفر من وضع خطة استراتيجية تعليمية وبحثية موحدة وواسعة النطاق لمدة خمس سنوات، وفى الوقت نفسه تسمح بوجود خطط استراتيجية نوعية للجامعات ومراكز الأبحاث تصب فى الخطة العامة وغاياتها. وهنا أؤكد ضرورة استخدام المنهج التحليلى لتحرير طرق تحقيق هذه الغايات من خلال: تحليل الفجوة وتحليل الاحتياجات، فضلاً عن تحليل البيئة الداخلية والخارجية، وأساليب تحقيق الغايات الاستراتيجية، والمخاطر والتحديات، والجدول الزمنى لتنفيذ الأهداف الاستراتيجية، على مستوى التعليم ومستوى البحث العلمى معا. ويجب التأكيد أن التطوير الاستراتيجى المرجو فى التعليم مرتبط بالتطوير على مستوى البحث العلمى؛ فهذان المستويان ليس منعزلين عن بعضهما البعض، والتعامل مع التعليم على أنه جزيرة منعزلة عن البحث العلمى كان خطيئة كبرى كرستها الطرق القديمة التى تتعامل مع العملية التعليمية باعتبارها عملية تقوم على الحفظ والتلقين. والآن علينا الربط المنهجى بين التعليم والبحث العلمى؛ لتعلم فنون البحث والاكتشاف والابتكار؛ حتى يكون التعليم هو البوابة الذهبية لبناء مصر المستقبل.