أكتب هذا المقال قبل إعلان النتائج النهائية للتصويت على الوثيقة الدستورية الجديدة؛ فالاعتماد فى هذا المقال هو على المؤشرات غير الرسمية التى تبدو قريبة جدا من النتائج النهائية التى ستكون بين يدى القارئ جنبا إلى جنب مع هذا المقال. الدستور المستفتى عليه يؤسس لنظام سياسى جديد تماما، ليس بسبب الاختلاف بين مواد الدستور الجديد وسابقه، وإنما بسبب اختلاف القوى التى تقف وراءه عن القوى التى وقفت خلف الدستور السابق؛ فالناخبون فى بلادنا لا يصوتون للرسالة ولكن لصاحب الرسالة ومصدرها، فكان الاستفتاء على الدستور الجديد استفتاء على شعبية القوى الداعمة له. لقد تبادلت القوى السياسية المصرية المواقع بين عامى 2012 و2014؛ فبينما وقف الإخوان وإسلاميون آخرون خلف دستور 2012، فإنهم وقفوا بكل قوتهم ضد الدستور الجديد، فحاولوا الحيلولة دون الوصول إلى يوم الاستفتاء، ولما فشلوا اختاروا المقاطعة. التحالف الذى وقف مساندا للدستور الجديد كان أكثر تنوعا. أحزاب جبهة الإنقاذ التى صوتت ضد دستور الإخوان لعبت الدور القيادى فى كتابة الدستور الجديد وأسهمت فى حشد الناخبين لتأييده. لكن القسم الأكبر من الملايين الذين خرجوا للتصويت لصالح الدستور فعلوا ذلك تعبيرا عن ثقتهم فى الجيش وقيادته التى عزلت الرئيس الإخوانى بعد ملحمة الثلاثين من يونيو، التى رسمت خريطة الطريق، والتى وقفت بقوة وراء الدستور الجديد، تأييدا لمواده وحماية للناخبين فى يوم التصويت. المؤكد أن قسما كبيرا من الناخبين الذين صوتوا لصالح الدستور الجديد كانوا من بين من صوتوا لصالح الدستور السابق. ولأن التصويت فى بلادنا لا يكون على الرسالة وإنما على مصدرها، فقد كان الاختيار فى المرة السابقة بين الإخوان وأحزاب الإنقاذ، أو بين الإسلام، الذى نجح الإخوان فى اختطافه، وأيديولوجيات ليبرالية ويسارية متنوعة، فانتصر الدين على الأيديولوجيا. أما هذه المرة فإن اختيار الناخبين كان بين الإخوان والجيش، أو بين الإسلام الإخوانى والوطنية المصرية، فانتصرت الوطنية على دين الإخوان. من الناحية السياسية، تغير مزاج الناخبين؛ فانهارت الثقة المشروطة التى وضعوها فى الإخوان. أما من الناحية الأيديولوجية فإن مزاج الناخبين لم يتغير، ولكن ما تغير هو قائمة الاختيارات المطروحة عليهم؛ فعندما كان عليهم الاختيار بين الدين وأيديولوجيات اليسار واليمين، اختاروا الدين، أما عندما كان عليهم الاختيار بين الهوية الوطنية ودين الإخوان، فإنهم اختاروا الهوية الوطنية بلا تردد. الوطنية المصرية والدين وأيديولوجيات اليمين واليسار.. هذه هى مصادر ومكونات الثقافة السياسية المصرية، وهذا هو ترتيب أهميتها لدى المواطنين المصريين. فى استفتاء دستور 2012 حشدت قوى الإسلام السياسى وأصحاب أيديولوجيات اليمين واليسار للتصويت بالإيجاب أو الرفض، كل حسب موقفه، فخرج للتصويت فى الاستفتاء 32% من الناخبين. فى استفتاء يناير 2014 حشدت القوى الوطنية المصرية وقسما مهما من أنصار أيديولوجيات اليمين واليسار للتصويت ب«نعم»، فيما قرر الإسلاميون مقاطعة التصويت، فشارك فى الاستفتاء حوالى 40% من الناخبين. وبينما فاز دستور الإخوان بتأييد عشرة ملايين مواطن مثلوا 64% من الناخبين المشاركين فى استفتاء 2012، فإن دستور 2014 فاز بتأييد حوالى عشرين مليون ناخب مثلوا أكثر من 95% من مجموع المشاركين فى الاستفتاء. هذه المؤشرات تكشف عن الموقع المركزى لعقيدة الوطنية المصرية فى التكوين السياسى المصرى، كما تشير بقوة إلى أن الفوز فى الانتخابات المقبلة سيكون من نصيب الطرف السياسى الذى يستطيع إقناع الناخبين بأنه وليس غيره هو التعبير الأمثل والممثل الأفضل للوطنية المصرية، يسرى هذا على الأشخاص من مرشحى الرئاسة المحتملين، كما يسرى على الأحزاب والتحالفات التى تستعد للتنافس على مقاعد مجلس النواب المقبل. الاختيار سيكون سهلا فى انتخابات الرئاسة؛ فالفريق السيسى هو المرشح الذى يجسد فى شخصه وخلفيته المهنية ودوره السياسى عقيدة الوطنية المصرية، وهو بلا منازع المرشح الأكثر حظا بين مرشحى الرئاسة المحتملين. غير أن الأمر أكثر تعقيدا فيما يخص انتخابات مجلس النواب بسبب توزع مسوغات الانتماء لعقيدة الوطنية المصرية بين أحزاب عدة ليس لأى منها بين الأحزاب المتعددة ما للفريق السيسى بين مرشحى الرئاسة المحتملين. هذا الحال هو من حسن الطالع؛ فمصر تحتاج رئيسا واحدا يمثل الدولة وهويتها ويوجه دفة اختياراتها الكبرى، ويعيد توحيد مؤسسات الدولة وقوى المجتمع الحية بعد أن أصابتها سنوات الاضطراب الثورى الثلاث بالتشرذم وانفراط العقد. لكن مصر فيما دون ذلك تحتاج لنظام سياسى تعددى تمثل أحزابه التنوعات والمشارب المختلفة التى تستظل جميعا بمظلة الهوية الوطنية، فتتنافس وتراقب بعضها البعض، كما تراقب الحكومة والسلطة من أجل مصلحة المواطن والوطن. لقد عززت مصر وحدتها الوطنية بهذا الإجماع الكبير على الدستور، وبإجماع المسلمين والأقباط على دعم النظام السياسى الجارى تأسيسه، وباحتلال عقيدة الوطنية المصرية مكانة سامية فوق العقائد والأيديولوجيات المنافسة لها. وبقى لمصر أن تعزز تعددية نظامها السياسى لكى يعكس هذا النظام تنوعات الجماعة الوطنية، فلا يقف أى من المؤمنين بالهوية الوطنية لمصر خارج نطاق مظلتها التى يجب أن تكون جامعة، وهى النقطة التى تعيدنا لتأمل هذا الإجماع الكبير فى تأييد الدستور الجديد؛ فالمؤكد أنه يوجد بين المصريين الواقفين على أرضية الوطنية المصرية نسبة تزيد على الخمسة بالمائة التى صوتت ب«لا» على الدستور الجديد، وأن هؤلاء لأسباب متنوعة اختاروا عدم الذهاب للصناديق. أنا هنا لا أتحدث عن الإخوان، فهؤلاء اختاروا منذ تأسيس جماعتهم فى عام 1928 ليس فقط الوقوف خارج مظلة الهوية المصرية الجامعة، وإنما أيضا إعلان الحرب على الهوية الوطنية ومعاداتها. ما أتحدث عنه هو فئات واسعة، خاصة من الشباب الواقفين بلا شك على أرضية الوطنية المصرية، ولكن الذين يتبنون مفهوما للوطنية تتبوأ فيه الحرية مكانة مركزية. أتحدث عن شبان نشأوا فى ظل دولة «مبارك» البوليسية فأصبحت السلطة بالنسبة لهم هاجسا مخيفا وشبحا يرون طيفه فى كل ركن. يدرك هؤلاء الشباب أنهم أقلية مهما زاد عددهم، فينتابهم الفزع من إجماع وطنى كاسح يدهس الأقلية. وعلى عكس آخرين، فأنا لا أخشى على هؤلاء الشباب من ألاعيب الإخوان، فالخبرة أصبحت كبيرة، وما بين شباب يتوق إلى الحرية والإخوان فراسخ من التناقضات، لكننى أقلق على مستقبل نظامنا السياسى الناشئ إذا ولد وهو على خصومة مع بعض شبابه، خصومة تنتقص من تمثيلية النظام لأبناء الوطن، وتحرم الوطن من جهود بعض من أنبه أبنائه.