أؤمن برسائل القدر، أياً كانت الهيئة التى تأتينى بها. ولذا لم أتعجب حينما اكتشفت أن تاريخ بدء الاستفتاء على دستور مصر فى تلك المرحلة الحاسمة، يتوافق والذكرى التسعين لميلاد دكتورة نعمات أحمد فؤاد، أدام الله عليها نعمة العافية، وهى تحيا عزلتها الاختيارية اليوم. تلك المصرية التى تحمل سيرتها الكثير من التحدى منذ بدايتها حينما كانت أول فتاة تحصل على المركز الأول على القطر المصرى فى امتحانات التوجيهية، مروراً بحصولها على ليسانس الآداب عام 1948، ثم الماجستير عام 1952، ثم الدكتوراة عام 1959 برسالة كان عنوانها: «نهر النيل فى الأدب المصرى». تقرأ سيرتها، فتدرك أنها امرأة ما لبثت تخرج من معركة إلا لتدخل أخرى جديدة، لا لمصلحة شخصية، أو منفعة ستعود عليها، ولكن كانت معاركها دوماً دفاعاً عن مصر وحضارتها وحقوق شعبها، دون أن تتخلى فى أى من تلك المعارك عن شرف المواجهة فى العلن وتلقين من يفرط فى حقوق الوطن دروساً قاسية بدأب وأدب، حتى ليشعر ذلك المفرط بصغر حجمه أمام تلك المصرية «ابنة النيل». ابحثوا عنها فى كتاب «شخصية مصر» الذى كتبته فى أعقاب نكسة يونيو شارحة فيه قوة بلادنا وحضارتها وقدرتها على عبور الهزيمة بدروس التاريخ لا بمشاعر القلب، وحينما تعلم أن دكتور جمال حمدان قد أرسل للمطبعة كتاباً له يحمل ذات الاسم، تحادثه وتصر على تغيير اسم كتابها، فيرفض لاختلاف الرؤية فى الكتابين، كتبت هى عن التاريخ وهو قد كتب عن الجغرافيا وتأثيرها على الشخصية، فيجيبها بحسم: «دعيه يا نعمات، سأزيد على عنوانى عبقرية المكان». ليخرج عام 1968 كتابان لمخلصين من أبناء مصر يحمل كل منهما عنوان «شخصية مصر»، وابحث عنها فى معركة مشروع هضبة الأهرام، حينما أعلن الرئيس السادات عن إقامة مشروع سياحى ضخم لملاعب الجولف عند هضبة الهرم! فتقاوم وتعلن رفضها داخل مصر وخارجها خوفاً من تأثير المياه والرطوبة على الآثار، فتقيم دعواها القانونية ضد رئيس الجمهورية وقت أن كان ذلك فى نظر البعض نوعاً من العبث، فلا تهدأ إلا مع تراجع «السادات» عن قراره. وابحثوا عنها فى قضية دفن النفايات النووية النمساوية فى الصحراء المصرية وهى تكتب على صفحات الجرائد وترسل الأوراق للمحاكم الدولية رافضة المشروع الذى قبلته الحكومة المصرية، حتى تعلن حكومة النمسا التراجع عن الفكرة، وابحثوا عنها فى معركة السماح للآثار المصرية بالسفر للعرض بالخارج، فتكتب عشرات المقالات ضد وزير الثقافة حتى تعود كنوز مصر. ابحث عن نعمات أحمد فؤاد لتجد أنها ما بدأت معركة إلا وأنهتها دون كلل أو سأم أو تراجع. لم تكن يوماً قابعة فى منزلها تغزل شرنقتها حول كلماتها بعيداً عن هموم الوطن والمواطن، ولذا عاشت رؤيتها فتقرأ ما كتبته من سنوات بعيدة، فتشعر وكأنها كتبته بالأمس القريب. سيدتى لا أملك لك إلا الدعاء بأن يمنحك ربى جزاءك فى آخرتك بما قدمتِه لوطنى، وأن يمنحنى ربى قدرتك على استبصار الغد بالإيمان الواثق بالماضى الذى ننتمى له. ما أحوجنا يا أمى الغالية لتلك الثقة فى وطننا وقدرته وشعبه اليوم، لندرك مسئوليتنا فى الذود عنه ورد كيد الخائنين فى الداخل والخارج، ونعلم ضرورة البدء بجدية فى معركة بناء غد قد لا نعيشه أو نراه، ولكن علينا أن نكون من الساعين لإيجاده بقوة وحسم من أجل تراب وطن خالد نستشعر الخوف عليه فى كل لحظة. ابنة النيل، ليتك تقرئين كلماتى، لتدعمى نفسى بما تؤمن به ولتؤكدى لى صحة إيمانى بأن مصر لن تموت ما دام فيها أوفياء لا يبغون سواها بديلاً. نعمات أحمد فؤاد..شكراً.. ألف شكر.