السعار التظاهري الذي لا يزال ينخر في جسد (المجتمعات المستبدة)؛ ليقضي علي الفساد - ساعيا لغد جديد تشرق فيه شمس الحرية، وتتبدي في أفقه نسائم عصر جديد بحكام جدد وشعوب أكثر حيوية - هذا السعار لا شك ينم عن جهل الأنظمة السياسية التي لا تقرأ معالجات مفكريها لقضاياها؛ بل لم يكلف هؤلاء الأباطرة أنفسهم عناء البحث والتشاور والمطالعة؛ فأفاقوا علي دوي السقوط وباتوا في سكرة الذهول، بعدما لفظتهم شعوبهم. فقد أعاد الهياج الثوري الذي يشهده المحيط العربي خلال الآونة الراهنة، إلي الأذهان نبوءة الكاتب الراحل أحمد بهاء الدين في كتابه "خطورة قضية شرعية السلطة"، والتي حذرت في العام 1984 من تلك الخطورة الكامنة، بل إنه وضع حلولًا يجب تداركها قبل السقوط في الهاوية، إذ دعا الحكام لتجاوز المفهوم السلطوي للحكم إلي شرعيته المبنية علي اقتناع الشعب بحكامه، والذي يأتي بالتوجه المخلص لأماني الشعب وإرادته عبر قيادة مؤسسية تسمح بالنهضة مبكرا في ظل اعلان الحرب علي الحكم الشخصي المطلق؛ فيتناول بهاء عبر مؤلفه أمثلة لكيفية ادارة الحكم في بريطانيا وامريكا عبر لجان حكماء تضم الخبراء والمعارضين للحكام لتسني لهم رؤية الصورة من مختلف جوانبها.. داعيا في ذلك إلي التخلص من نفقاء السلطة كسبب لتخلفنا ورجعتنا الحالية.. متجاوزًا في ذلك حدود الزمان والمكان؛ إذ لو أعيد طرح الكتاب في الأسواق خلال الآونة الراهنة لحظي بإقبال جماهيري واسع إذ إنه يتلمس المنهج الحياتي الواقعي والحضاري، رغم مرور ربع قرن علي صدوره؛ ليعكس بهاء الدين في ذلك جهل أنظمة لا تقرأ معالجات مفكريها لقضاياها. وتتنوع أطروحات الكتاب الثقافية لتضم خمس وعشرين عنوانا في شتي القضايا الحضارية عبر مائتين وثلاث وتسعين صفحة تكشف رؤية المؤلف واستبصاره بالمستقبل، واتضح خلالها ابداعه الادبي وقدراته المعرفية فضلا عن ذكائه في قدرة التأثير والاقناع بتوثيق آرائه بالادلة والمعلومات.. فيقول: إن شرعية السلطة تتجاوز مفهوم القانونية الي اقتناع المحكوم بأحقية السلطة وجدراتها وشعوره بأن السلطة في توجهها العام وطنية ومخلصة لارادة الشعب وامانية وللقيم العامة التي تربط ابناء الوطن؛ وذلك بغض النظر في طريقة وجود السلطة او اسلوبها في الحكم. ويشرح الكاتب جوانب التقدم الملازمة للشرعية؛ قائلا: ان اي مجتمع ناهض لن تتحقق نهضته وتقدمه المادي الا ان تستتب لديه قيم ومؤسسات ونظم تسمح بقيام التقدم واستقراراه في ذلك، ويضرب المؤلف مثالًا بفرنسا وايطاليا اللتين قد تتغير فيهما الاحزاب والحكام والوزارات، ولكن السياسة العامة ثابتة وتوجهاتها معروفة مسبقا وردود الفعل يمكن التنبؤ بها ايضا لكننا نجد بلادا عربية سياساها عرضة للتقلبات وأهدافها غامضة لدي مواطنيها وتسيرها الاعتبارات الشخصية كالمزاجية والمجاملة والوعود الكاذبة، وبالتالي فرد فعل الرأي العام، أما المقاومة أو الاحباط والسلبية وانتشار الفساد، وهو المثل الحاضر الذهن في ثورة مصر وتونس الاخيرة. ويؤكد أحمد بهاء الدين جانبا مهما للشرعية يتعلق بسلوك المواطنين المستوعب لمبادئها، وهذا لا يتحقق بغير الحضارة الانسانية؛ فيقول: إن القوة المادية لا يمكن ان تأتي الي في اعقاب قوة معنية؛ ففي حضارات دول أوروبا وامريكا وشرق آسيا كان التقدم العلمي والصناعي تبذله بالتوازي تقدما في مجالات العلوم الانسانية.. موضحا ان اهم القوي المعنوية للعرب تتمثل في القومية وتحدياتها الداخلية وتحقيق الوحدة العربية والحفاظ علي البترول واستثماره والتركيز علي الديمقراطية والعقلانية والشرعية. وينتقل الكاتب لكيفية تحقيق الشرعية القانونية متناولا ذكرياته مع الفقيه القانوني الشهير عبد الرازق السنهوري، أحد رواد تطبيق روح القانون كأهم مبادئ الشرعية وينتقل في ذلك ليسرد مثالا حدث بوقت قريب لتدوينه الكاتب، وفي ذلك صة طريفة لسيدة إنجليزية اشترت سمكة "السترجيون"، والتي تدخل بحار إنجلترا مرة كل سنوات، وأعدت وليمة بها لضيوفها الا انها بعد ان دعت نزلاءها لتناولها اذا برجل عجوز يخبرها بقانون لم يلغ منذ القرن السادس عشر يقضي بأن هذه السمكة تكون ملكا لملك إنجلترا؛ فقامت بإلغاء العشاء وحملت السمكة في احسن وعاء وركبت القطار إلي لندن متوجهة إلي قصر ملك إنجلترا لتسليم السمكة للملكة.. وهو ما يعكس إحساس المواطنين بأن قوانين بلدهم تعبر عنهم، وتتسع لمشاعرهم؛ مما يخلق حالة من السعادة في تنفيذها وان كانت ميتة بلا معني. أما عن المثقفين ودورهم في تحقيق الشرعية، فيروي بهاء الدين علاقة المثقفين بالسلطة في العالم العربي، ويبدأها بمشكلة هجرة العقول والتي تشكل اكبر عقبات العالم الثالث عن التقدم وخسائره، وفي الوقت ذاته أهم مكاسب البلاد المتقدمة مستغربا علي حكومات الدول العربية التي لا تدرك قيمة المهاجر رغم كونها في أشد الحاجة إليه، ويلوم في ذلك البلد الام لسوء تصرفها مع نخبة ابنائها كما يلوم المهاجر علي انانيته. وفيما يتعلق بمأساة المثقفين الباقين في بلادهم من أهل الفكر والعلم؛ مما يضطرهم للجوء إلي الهجرة الداخلية، فيقول إنهم هم موجودن بأجسامهم، غائبة عقولهم وقدراتهم، خاصة مع عدم استعدادهم لمواجهة التشرد او السجن بسبب العلاقة المتوترة مع السلطة؛ وذلك علي الرغم من أهمية تكامل الادوار بينهم.. ويوضح الكاتب ان للعلاقة السيئة بين المثقفين والسلطة في الوطن العربي تاريخا طويلا من المعاناة التي أدت لانقطاع فكري تام زاد علي الثلاثة قرون بدأت مع استبداد الامبراطورية العثمانية. وينتقل المؤلف - في إطار هذا - إلي آثار التخلي عن شرعية السلطة، مستعرضًا مراحل تخلف المسلمين لعشرة قرون عن حضارتهم الاسلامية، وأرجع السبب في ذلك إلي البعد عن جوهر قيم الدين، فضلا عن التخلف الحضاري علميا وفكريا واقتصاديا؛ رغم كون الاسلام أسرع رسالة وليس إمبراطورية لانتشاره دون سلاح في آسيا وأفريقيا في أقل من قرن ونصف القرن، إلا أن انهياره كان بظهور الاستبداد وتضييق الخناق علي حرية الرأي والفكر؛ وهو الامر الذي تكرر برمته مع ظهور المكارثية بأمريكا؛ مما تسبب باستمرار الحرب عشر سنوات خسرت أمريكا خلالها نصف مليون شاب ومليارات الجنيهات. أما عن عناصر تدعيم الشرعية، فيستكمل بشرح العناصر الناقصة في القوة العربية؛ ومنها: القوي الصناعية والاقتصادية، وقوة التحالف مع الآخرين رغم امتلاكها ملايين البشر والمساحات والسلع الاستراتيجية.. مشيرًا إلي إدراك الدول العظمي لعناصر القوة، كما بأمريكا وروسيا، وما فعلته بريطانيا حينما تحالفت مع عدوها الأكبر الاتحاد السوفييتي لكسب الحرب العالمية الثانية، وكذلك تحالف دول "الأوبك" المنتجة للبترول لتصبح قوة مؤثرة. كما يلقي الضوء علي قضية النخبة في شتي المجالات السياسية والاقتصادية والتعليمية والإعلامية والثقافية، ودورها وتأثيرها علي الجمهور، وتقدم الدول.. موضحًا كيفية اهتمام نابليون منذ مائتي عام بإنشاء مدرسة "البولتيكنيك"، ثم قيام "ديجول" في خمسينيات القرن الماضي بإنشاء معهد قومي للإدارة يضم أنبغ الخريجيين ليقودوا فرنسا، عاقدًا مقارنة بين ذلك والوضع في عالمنا العربي وكيفية تأثر نخبنا بعدم فهم السياسيين لخطورة دورهم، فضلا عن التأثير المتنامي لوسائل الإعلام السطحية في عزل النخب واستقطاب الادعياء، وهو ما يأخذنا من سيئ لأسوأ ويزيد من تهميش العقل الجمعي للجمهور، مطالبًا الدولة بتقديم التسهيلات اللازمة والبيئية الملائمة للنخبة للقيام بدورها في جذب الجماهير لمستويات أرقي من الحياة والثقافة والعادات والتقاليد اللازمة لصناعة الحضارة والتقدم. ولتحقيق الشرعية في الامن القومي، والذي يكسب تأييد المواطنين، يتناول بهاء الدين قضية حوض النيل، ملقيا الضوء عليها قبل حدوثها بربع قرن من الزمان؛ فالكاتب يتحدث عن خطأ مصر في السنغال مالي وسط أفريقيا، وتشاد غينيا شمالي غانا، ونيجيريا جنوبي السودان، والصومال، لتركيزها علي تدريس اللغة أو الدين فقط دون الاهتمام بتنمية هذه المجتمعات، وهو العنصر الذي نجحت إسرائيل في استغلاله بتعليم الناس حرفا يدوية تلائم البيئة وطرقا حديثة للزراعة.. مرجعا ذلك لسذاجتنا بمعرفة أن ثمة أيادي أجنبية كثيرة تتحرك بشتي الوسائل المعقدة لاحداث انواع من الصراعات الداخلية في بلادنا، وهو ما حدث بعد ربع قرن بأزمة النيل والسودان والعراق. مختتمًا كتابه ببعض النقاط المهمة والإشارات العلاجية للوضع القائم ولتلافي حدوث أزمة، فيطالب بإعادة كتابة التاريخ الإسلامي والعربي لمواكبة تطور مذاهب التاريخ والمعلومات وتحرير التاريخ من تزوير السلطة، والذي بدا منذ الفراعنة.. موضحا كيفية استعمار التاريخ من قبل الحضارة الغربية.. ساردا اعترافات مفكري الغرب أنفسهم؛ أمثال: الفيلسوف روجيه جارودي، والذي قال يجب علي الحضارة الغربية أن تدرك حجمها، وأن تتحاور مع الحضارات الأكثر عمقا.. مؤكدا اقتباساتها من الحضارة الفرعونية، في حين يؤكد الكاتب الفرنسي أناتول فرانس أن معركة بواتييه الفرنسية سنة 732 ميلادية والتي انتهت بهزيمة الوالي عبد الرحمن كانت تراجعا للحضارة العربية امام البربرية الاوروبية.