رسم فنان الكاريكاتير السورى على فرزات كاريكاتيراً جريئاً، قُبيل اندلاع الثورة السورية بثلاثة أشهر، تنبّأ فيه برحيل النظام، وبمجرد النشر ترصّدته عصابة من الشبيحة على طريق مطار دمشق وضربوه ضرباً مميتاً ثم سحبوا يديه وراحوا يدقون أصابعه إصبعاً إصبعاً كى يحطموها قائلين: «لكى تتعلم ألا تتطاول على أسيادك». على فرزات كان صديقاً مقرباً من الرئيس بشار الأسد الذى كان يفتتح معارضه ويحضر أمسياته ويتواصل معه ويسأله النصيحة قبل الرئاسة، وبعد وصوله إلى كرسى السلطة سمح ل«فرزات» بإصدار أول جريدة خاصة فى سوريا. لكن «الدومرى» -اسم الصحيفة، وهو مقتبس من شخصية سورية فولكلورية، أزعجت المخابرات والوزراء والأجهزة الأمنية، فأغلقها الرئيس وقطع جسور التواصل مع صديقه الفنان. انطلاقاً من آثار هذه الحادثة، هجر على فرزات أسلوب الترميز الفنى الذى سار عليه طوال حياته، ولم يفارقه إلا نادراً لانتقاد صدام حسين والقذافى، وبعض الشخصيات السورية، ليدشّن مرحلة فنية جديدة هى الكاريكاتير المقاوم المباشر.. الذى يوجّه الطلقات لشخصيات معلومة ومحدّدة، وأدخل هذا التغيير «فرزات» فى مواجهتين ساخنتين، الأولى مع تلك الشخصيات التى يجلدها بريشته، والثانية مع محبى فن «فرزات» الذين سحرتهم رمزيته المفعمة بالإيحاءات طوال أكثر من ثلاثة عقود، وصدمتهم المباشرة، التى إن كانت ضرورية فى هذه المرحلة التاريخية، فإنها تفتقد ذلك الألق الذى تحمله الرموز. لكن لا بد من الاعتراف بأن تلك «المباشرة» التى انتقل إليها «فرزات» جعلته مؤثراً جداً فى أحداث الثورة السورية، إلى حد أن مجلة «تايم» الأمريكية اختارته من بين العشرة الأوائل ضمن أهم مائة شخصية أثرت فى العالم عام 2012، ويحمل الثوار كذلك رسوماته ضمن أسلحتهم التى يقاتلون بها. على مقهى فندق الشام فى قلب العاصمة السورية دمشق، التقيت على فرزات عام 2007، وكان حزيناً لما آلت إليه الأحوال فى بلده، وقال بالنص: إن الطوفان سيجرفنا جميعاً إذا لم نتحرك بسرعة للإصلاح. وقد جاء الطوفان كما تنبّأ، وجرف قلب العروبة النابض إلى دوامة من العنف والدم. نسأل الله أن يخرج سوريا العريقة منها. وظللنا على تواصل طوال تلك الفترة حتى جاء الاعتداء الغادر على جسده وأصابعه، فحمل «فرزات» فرشاته وأوراقه، وما تبقى من عمره على ظهره، ليقيم بالكويت التى يرسم فى صحفها منذ نحو ربع القرن، ولتستقبله تلك الدولة العربية الصاخبة بحراكها السياسى «بربيعها الدائم» -حسب وصفه- الذى أتاح له مساحة من الحرية لم يُقصف له فيها قلم ولم تتحطم له ريشة ولا أصابع، التقيته مجدداً فى مكتبه بجريدة «الوطن» الكويتية، وقلت له وأنا أطالع رسومه التى تحوّلت إلى لوحات تزيّن حوائط مكتبه: ■ ماذا كنت ترى وتستشرف عندما تقابلنا على أحد مقاهى دمشق عام 2007، وقلت بالنص: إما الإصلاحات وإما الطوفان؟ - (ضاحكاً فى أسى) ليتنى ما تنبأت بذلك، فقد جاء الطوفان، واكتسح سوريا ويكاد يدمرها. كنت أرى الأكاذيب التى ينشرها النظام فى كل مجال ومكان وكنت من أوائل من اكتشفوا هذه الأكاذيب بحكم اقترابى من الناس ومعرفتى بسوريا وأهلها. عشنا وسط شعارات زائفة أكثر من 40 سنة. وأنا كرسام كاريكاتير أستطيع كغيرى قراءة ما بين سطور الأحداث، وقد رأيت سوريا وهى تغلى نتيجة للظلم المستشرى فى كل مكان. ■ قبل أن تثور سوريا وتنتفض انطلاقاً من درعا رسمت كاريكاتيراً شجاعاً كدت تفقد حياتك بسببه: «القذافى» يقود سيارة والرئيس السورى يشير له بإصبعه الإبهام «AUTO STOP» مما يعنى أنه سيرحل مع الرئيس الليبى الراحل؟ - رسم الرئيس فى سوريا محرّم كاريكاتيرياً. ممنوع على أى رسام كاريكاتير رسم شخصية الرئيس ولو على سبيل المدح.هذا الكاريكاتير الذى تحدثت عنه كسر حاجز الخوف وحطم أحد التابوهات (المحرّمات أو المقدسات)، وأعتقد أنه كان أحد أسباب انطلاق الانتفاضة ضد النظام. أنا أتفاعل مع الشارع وهو ما يجعل توقعاتى صادقة. توقعات الفنان تقع على مسافة من الخبرة والممارسة، والأهم هو إحساس الفنان الذى يقيس نبض الشارع ويرصده ويعبر عنه. والمعروف أن كل المخلوقات تستشعر الزلزال ما عدا البغال التى لا تنقل لها حوافرها هذه الاستشعارات، والحمد لله أننى فنان تستشعر فرشاته وأقلامه ما يحدث حوله، ولست من البغال. صديقى الرئيس ■ حسب معلوماتى أنت كنت صديقاً مقرباً للرئيس الأسد، وكتب شقيقك رواية عنك بنفس العنوان، فماذا حدث؟ - لم تكن علاقتى بالرئيس قائمة على عزومات وجلسات خاصة، وإنما كانت علاقة فنية فكرية. كان «الأسد» حتى من قبل أن يصبح رئيساً له علاقات مع مجموعات من المثقفين والفنانين، وربما كنت فى مقدمة هؤلاء، وكنا نقدم له النصائح من أجل سوريا الديمقراطية الجديدة لا من أجل منافع شخصية، وكان يتظاهر بالاستماع إلينا، لكننا اكتشفنا أنه كان يسوّق نفسه عبرنا من أجل صعوده إلى التوريث. ثم خرجنا من ذلك كله بخُفى حنين، فصاروا يتهموننا فى وطنيتنا فقط، لأننا نصحناه بالتعامل الشعبى مع الناس. المخابرات السورية اكتشفت قُربنا من «بشار» وتأثيرنا فيه قبل أن يصبح رئيساً، فشنّت حملة واسعة ضدنا، ومارست العدوانية معنا، وصلت إلى حد الضرب حتى تعزل هذا الشخص عن المحيط الذى وضع فيه لتسويقه بعد أن أخذ حاجته منا. وبدأت الملاحقات، فأغلقوا منتدى الثلاثاء الاقتصادى ومنتديات الربيع العربى والمجتمع المدنى التى سمحوا بها فى البداية وختموا ذلك بإغلاق جريدة «الدومرى»، حيث كنا نصحناه بالسماح بإصدار الصحف الخاصة. اكتشفنا أننا كنا سلماً استخدمه للصعود إلى منصب الرئيس. ويبدو أن هذه كانت خطة مدبّرة من معلميه للحصول على الرئاسة. سخرية «الدومرى» ■ «الدومرى» التى أصدرتها كانت قاسية جداً فى سخريتها وانتقاداتها لممارسات أركان النظام. - قبل أن تصدر «الدومرى» قلت لهم إننى سأنتقد حزب البعث الذى ينص الدستور السورى وقتها على أنه الحزب القائد ويمنع انتقاده، وانتقدت المخابرات والقضاء وكل أشكال الفساد والمافيات فى البلد. وكان «الأسد» متجاوباً معى فى البداية، وقال لى «ما فيه مانع»، ولكن المصيبة أنه بعد صدور عدة أعداد انفتحت علىّ أبواب الجحيم، وبحثتُ عنه لأكلمه كما كان فى السابق فلم أجده. لقد اختفى فى زحام الشعارات والكلام الفارغ! ولم تغلق «الدومرى» بعد ذلك، وإنما تمت ملاحقتى وتعرّضت لكثير من المضايقات وانقطعت العلاقة بينى وبينه تماماً. هل تعلم أن «بشار» كانت له ممارسات مضحكة مبكية أثناء علاقتى به. كنت أجلس معه فى مكتبه وعندما أبدأ الحديث، كان يضع يده على فمه ويطلب منى الهمس «حتى لا تسمعنا المخابرات»، وعندما كان يدخل الحمام كان يتزحلق على البلاط كالأطفال حتى يصل إليه! المارد الفنى ■ الأجهزة الأمنية السورية حسب علمى رهيبة فى قمعها.. من أين جاءتك الجرأة لرسم كاريكاتير «القذافى» الشهير؟ - فى لحظة ما تبخر خوفى تماماً. أزعم أن المارد الذى يكمن داخل كل إنسان يخرج فى لحظة ما ويركنك جانباً ويتصرّف هو دون خوف أو قيود. هذا ما حدث معى. قرأت الأحداث وانتفض ماردى، ورسمت هذا الكاريكاتير علماً بأننى كنت أعيش فى قلب دمشق، وفى أهم ساحاتها، وهى ساحة السبع بحرات المجاورة للأجهزة الأمنية، وقد رسمت هذا الكاريكاتير وأرسلته إلى الجريدة «الوطن»، كنت أرسم عن الرئيس وأركان نظامه وسط أجواء من الرعب تحيط بى فى مكتبى وسط الشام. البعض تصوّر أننى أرسم كذلك، لأنى أعيش فى الخارج لأنه من المستحيل أن يقوم بهذا العمل شخص يعيش فى سوريا إلا إذا كان مجنوناً. ■ أليس الإبداع جنوناً كما يقولون؟ - (ضاحكاً) جنون إيجابى، وليس على طريقة النظام والشبيحة الذين «يُبدعون» قتلاً وذبحاً فى التنكيل بالشعب السورى. المارد الذى حدثتك عن انتفاضته كان يرسم على راحته، لدرجة أننى كنت أشاهد رسوماتى فى الصحيفة وكأنها لشخص آخر لا أعرفه. كانت تخرج من «اللاوعى الواعى» إن جاز التعبير. وفوجئت بالناس فى سوريا تتناقل هذه الرسوم وتطبعها وتوزعها فى المقاهى، وهو ما ساعد على كسر حاجز الخوف الذى زرعه النظام فى نفوسنا طوال 40 عاماً. وهذه مهمة الفنان: فتح الأبواب أمام الأصوات المقموعة، كى تصرخ وتثور. ■ هذا المارد الفنى كدت تدفع حياتك ثمناً له: كيف حال أصابع الفنان الآن؟ - انظر إلى ضيق الأفق! لقد تصوّروا أنهم عندما يحطّمون أصابعى يكونون بذلك قد قضوا على فكرى! الفنان قد يموت، لكن الفكرة أو العمل الفنى يبقى. بعد الحادثة وجدت على موقعى آلاف الرسوم المساندة من جميع أنحاء العالم وكلها موقعة ب«كلنا على فرزات». والحمد لله، عادت أصابعى للعمل بنسبة 95%، رغماً عن أنوفهم. (يرفع يديه ويقلبهما بشكل مرح). إخوان مصر وسوريا ■ شبيحة «بشار» البعثى حطموا لك أصابعك وضربوك «علقة موت»، لكنك فى ظل الحكم الرشيد لأصحاب الرايات السود من الإخوان وغيرهم من داعش والقاعدة قد تقطع يداك ورجلاك من خلاف أو تصلب، فماذا أنت فاعل؟ - (ضاحكاً) والله ما أسيبهم!!! لماذا تتحدثون وكأن هؤلاء لديهم قدرات خارقة؟ الإخوان عابرون فى الطريق الذى تسلكه الثورات. ليس هناك ثورة فى العالم معقمة، ولكنها رحلة مليئة بالكثير من المطبات والأشواك والآلام والطحالب. الثورات كشفت هؤلاء من خلال التجربة التى حكموا فيها مصر، ولحسن حظنا فإن مصر أجهزت على الإخوان المسلمين وضربتهم ضربة قاصمة فى العمود الفقرى، ليس فى المنطقة فحسب، وإنما حتى فى أوروبا، وهذا سيوفر علينا فى سوريا وفى كل بلدان الربيع العربى الكثير من الوقت والجهد، فهم -أى الإخوان- قد فضحوا أنفسهم عندما حكموا وظهر للشعوب كيف أنهم دمويون وقتلة وبلطجية وبلا مشروع، وأنهم يستغلون حاجات الناس وأوجاعهم كى يصلوا إلى السلطة. ■ هل كنت تتوقع ما حدث للإخوان فى مصر؟ - نعم أنا كتبت ورسمت متوقعاً سقوطهم السريع من لحظة استلام «مرسى» للحكم، خصوصاً عندما فتحوا أبواب مصر لإيران. فالإيرانيون لا يمكن أن يمنحوا أى شىء مجاناً. عموما التنظيم السرى أصبح الآن علنياً، كالمرشد الإيرانى أو قطّاع الطرق. ■ هل تحلمون ب«سيسى سورى» يخلصكم من «داعش» والإخوان و«بشار» مرة واحدة؟ - (ضاحكاً) يارييييت! أين هو ذلك السيسى الذى يستطيع فعل كل ذلك! عموماً نحن نحيى الفريق السيسى على ما قام به، استجابة لرغبة ملايين المصريين، والحقيقة أن الرجل أنقذ مصر من ورطة لم يكن يعرف خطرها إلا الله. ■ كيف سترسم ريشتك المشاغبة الفريق السيسى؟ - سترسمه نقطة مضيئة محلّقة فى سماء العالم. فالرجل يستحق كل تكريم، لكنى أحذر من فكرة تأليه البشر. ففى سوريا عانينا كثيراً من ذلك. رسم الرئيس السورى بالكاريكاتير سلباً أو إيجاباً ممنوع تماماً، لأنهم روّجوا له كإله! أنا أقر بأن «مرسى» أصاب مصر فى عمودها الفقرى ولولا تدخل شعب مصر واستجابة «السيسى» لشُلّت مصر تماماً. ■ كيف سترسم صديقك الرئيس بشار؟ - (متصنعاً الغضب، وباللهجة المصرية) بس ماتقولش صديقى! سأرسمه شبحاً.. بخاراً.. سراباً. «الأسد» انتهى تماماً بعد 6 أشهر من انطلاقة الثورة، وهو أقل من عمدة قرية فى سوريا الآن. الذى يقاتل شعبنا الآن هو حزب الله وإيران وروسيا، و«الأسد» لم يعد لديه اقتصاد أصلاً، وقد أغرق سوريا فى الديون لمليون سنة. شعبنا البطل هو الذى يحكم سوريا الآن من خلال التنسيقيات والقوى الثورية، وما تسمعه عن «داعش» وغيرها من «القاعدة» هى صنيعة «الأسد» وبإذنه دخلت سوريا، وسيتخلص الشعب السورى الذى لا يعرف التطرف منها كلها، وسنشد على تمثال الحرية «السيفون»، لأن أصحابه تآمروا على شعبنا وأطالوا عمر النظام الذى يقمع ويظلم السوريين أكثر من 50 سنة. ■ هل تريد منهم أن يوجّهوا للنظام ضربة عسكرية قاصمة؟ - إنشالله ضربة تضربهم همه وأوروبا مرة واحدة! لسنا بحاجة إلى أى ضربات أمريكية. هذا حكى فاضى وتمثيليات كى يبقى النظام الذى يخدم إسرائيل ومصالحهم فى المقام الأول. الغرب هو من أرسل إلينا هؤلاء الظلاميين كى يتحكم فى مصير الثورة السورية ويتخلص من تلك العناصر التى تؤرقه. وأى ضربة من هؤلاء ستصيب الشعب السورى، وليس النظام الذى تسرّب وتبخر، واختفى ما تبقى منه تحت الأرض. «الأسد» الآن مجرد ميدالية فى يد إيران. نكسة إخوانية ■ فى ظل المناخ الحالى الغائم، هناك من يتوقع وصول الإخوان إلى الحكم فى سوريا مع أول انتخابات؟ - الإخوان يستخدمون الآن ك«فزاعة» لتخويف الناس من الثورة فى سوريا، والأمريكان المتحالفون معهم يوظفون التيارات الدينية المتطرفة وحتى الوسطية التى تحصل على التأييد بالأونطة والشعارات الزائفة لخدمة مصالحهم، ثم سيلقونهم فى المزبلة، كما ألقوا غيرهم من العملاء. الإخوان لا يمكن أن يحكموا سوريا للأسباب التى حدثتك عنها. وإذا فكروا فى ذلك «عم يتنفخوا» سننفخهم، ولن يسمح الشعب السورى بمثل ما حدث فى مصر. لقد عشنا «نكسة إخوانية» كنكسة حزيران- يونيو 67- لكننى على الرغم من هذا متفائل، فظهورهم كان ضرورياً كى تنكشف كل الشعارات الزائفة التى خدعونا بها طوال العقود الماضية، وكى ننتهى من هذه الظاهرة التى أرّقتنا وعوّقتنا. الإخوان المسلمون والمتطرفون هم آخر ورقة تستخدمها إسرائيل وأمريكا لمنع تقدم الثورات وتحقيقها لأهدافها، إلا أن الثورات ككاسحة الألغام ستزيل كل ما يعترض طريقها لتسير إلى خط النهاية بنجاح.