حالة استنفار أمنى غير مسبوقة تغطى أرجاء محطة مصر، بداية من البوابات الرئيسية وحتى أرصفة القطارات، عشرات الركاب يسيرون فى خفة ناحية أرصفة وجه قبلى، الكلاب البوليسية تتجول بطول رصيف «8» للكشف عن الممنوعات بحقائب المسافرين التى تم فحصها جيداً فى البوابات الإلكترونية قبل الدخول إلى المحطة، إذاعة المحطة تعلن عن قطار 978 الفرنساوى المتجه إلى أسيوط فى تمام السادسة والنصف، عند سماع الإعلان ترتسم الابتسامة وتعم الفرحة وجوه الحاضرين من القيادات الأمنية، وسائقى القطارات والمهندسين والفنيين والركاب ممزوجة ببعض القلق والخوف من تسيير أول قطار إلى الصعيد بعد فترة توقف استمرت 100 يوم، كاد فيها أهل الصعيد ينسون شكل القطارات، وعانوا خلالها من استغلال سائقى سيارات الأجرة. ما إن أعلنت هيئة السكك الحديدية عن تشغيل القطارات من جديد إلى الصعيد بعد موافقة الجهات الأمنية، حتى كان مكتب تذاكر وجه قبلى على موعد مع استقبال الصعايدة من جديد، وذلك قبل انطلاق الرحلة بيومين، شهد خلالها شباك التذاكر حالة هدوء كبيرة فسرها موظفو المكتب بعدم علم الناس بعودة تشغيل القطارات، بالإضافة إلى تخوفهم من تكرار الحوادث وانتظارهم حتى انتظام التشغيل كما حدث بوجه بحرى. فى تمام السادسة إلا خمس دقائق صباحاً مر جرار به أكثر من سائق ومساعد، قدموا التحية إلى رجال الشرطة ومسئولى المحطة الذين استقبلوهم بترحاب شديد لم يخلُ من الصياح وتوزيع «القفشات»، توقف الجرار دقائق قليلة ثم انطلق تجاه إمبابة والجيزة، «جرار استكشاف السكة لتأمين حركة سير قطار الركاب الذى يحين موعده بعد نصف ساعة من الآن» حسب وصف رفعت محمد عبدالمقصود ناظر محطة مصر للوجه القبلى، حضر الرجل مبكراً إلى المحطة لتوديع أول قطار متجه إلى الصعيد بصحبة عدد كبير من رجال الشرطة الذين انتشروا بطول رصيف 8، مع دقات السادسة حضر القطار رقم «978» الفرنساوى، والمتجه إلى أسيوط فى تمام السادسة والنصف، كان فى انتظار القطار عدد قليل من الركاب مقارنة بالماضى القريب قبل توقف حركة التشغيل، ومع مرور الوقت زاد العدد، لكن لم يتم إشغال جميع المقاعد بعربات الدرجة الأولى والثانية. داخل عربات القطار كانت آثار الصيانة واضحة، إذ بدت الدهانات جديدة، ومقاعد القطار سليمة، ودورات المياه فى حالة جيدة، مما دفع أحد ركاب الدرجة الثالثة لأن يعلق قائلاً «القطر ده نضيف بس عشان ده أول قطر مسافر للصعيد، وفيه صحفيين كتير بيصوروا فيه، الهيئة بتضحك على الناس لأن كلها كام يوم والقطارات الزبالة هتظهر تانى». «عاوزين الحياة ترجع تانى، وإن شاء الله ما فيش أى حاجة هتحصل فى السكة والأمور هتعدى» يقولها ربيع عبدالسميع سائق القطار الخمسينى، الذى يقول إنه ينتظر الخروج على المعاش بعد 4 سنوات، إذ يعمل سائقاً فى السكة الحديد منذ 32 سنة، الأمر الذى يؤهله لأن يكون أكثر السائقين خبرة على خط الصعيد. فى المقعد المجاور له يجلس المهندس أشرف العجوز مدير الفحص والتفتيش بشكل استثنائى للإشراف على رحلة القطار من الناحية الفنية «إحنا مستعدين جدا لعودة تسيير القطارات على السكة ومفيش مشاكل بدليل إن قطار البضايع شغال». تنطلق صافرات القطار بشكل متتابع معلنة قيام الرحلة بعد تحول لون الإشارة أمام السائق إلى اللون الأخضر، يتحرك القطار ببطء فيما يتحدث إيهاب الصدفاوى أحد الركاب قائلاً «ما سافرتش البلد بقالى أكتر من 100 يوم بسبب توقف القطارات، سواقين الأجرة بهدلونا خالص، عشان كده ما بسافرش غير فى القطر، وأول ما اشتغل قلت هسافر عشان أشوف أمى». إيهاب مدرس علوم يعيش فى القاهرة بينما تسكن والدته فى أسيوط، يضيف قائلاً إن بعض السائقين رفعوا الأجرة خلال الفترة الماضية إلى 120 جنيهاً للسفر من أسيوط للقاهرة، خاصة بعد انتشار المحسوبية والبلطجة بالمواقف، لكنه عبر عن سعادته بعودة القطارات قائلاً «شعرت أن الدولة بدأت تنتظم، وأن فيها حكومة». نفس الرأى أبداه صلاح عياد -مدير مدرسة بأسيوط وأحد ركاب العربة رقم 5 - فيقول «كنت زعلان على البلد، وبحب القطر جداً وبأفضله على الأتوبيسات والميكروباصات لأنه مريح، فيه دورة مياه وكافيتريا وجميع سبل الراحة»، لا ينسى صلاح طبعاً حوادث القطارات المتكررة فيقول «ربنا القادر على كل شىء، والإنسان لازم يسلم أمره لربنا». يلتقط عيسى جرجس أطراف الحديث فيقول فى حماس «مشكلة القطر العادى فى البياعين، بيزهقونا وبيشربوا مخدرات فى القطر ومش لاقيين الحكومة». وعلى غير العادة وجود عدد كبير من ضباط وأمناء وأفراد الشرطة داخل عربات القطار، حيث قام ضابط برتبة رائد بمنع الصحفيين والمصورين من إجراء لقاءات مع الركاب أو التقاط الصور لهم داخل القطار، متحججاً بعدم وجود تعليمات أو تصريح بذلك، لكنه سمح لهم بالتقاط الصور قبل وصول القطار إلى محطة الجيزة فى تمام السابعة صباحاً. «هو القطر بيهتز كده ليه» سؤال وجهه حسن مهيوب مواطن يمنى (58 سنة) يعمل إداريا بالتربية والتعليم باليمن، إلى أحد الركاب بجواره، يرد الجار «هو أنت أول مرة تركب قطر فى مصر»، تأتى الإجابة «أول مرة أركب قطر فى حياتى لأن اليمن ما بيها قطر ودى أول مرة أزور فيها مصر». توقف القطار لمدة عشر دقائق فى محطة الجيزة التى شهدت وجوداً أمنياً مكثفاً، دوت صافرة القطار فى أرجاء المكان ثم انطلق من جديد ليتوقف فى أبوالنمرس ثم الحوامدية ثم العياط فى أماكن خالية دون أسباب واضحة، وهو ما تململ منه الركاب مبدين ضيقهم لبعضهم البعض «هو لسه اتحرك علشان يقف، هو فيه حاجة قدامه السكة فاضية خالص». يصل القطار محطة الواسطى ببنى سويف فى الساعة 8.38 صباحاً. متأخراً عن موعده الأصلى حوالى ساعة، يعلق أحد الركاب «القطر ماشى بيدلع، المفروض دلوقتى يكون عند بنى سويف»، يضيف «القطر ده معدل، من بره فرنساوى ومن جوه إسبانى زى ما هو مكتوب على الباب بتاعه تم التطوير فى مصنع قادر». يسير القطار من جديد ومعه تستمر شكوى بعض الركاب الذين يشتكون من مياه دورات المياه العكرة «المفروض تكون الميه اللى فى القطر الناس تعرف تشربها» كما يقول أحمد حسين أحد الركاب بعربة 8. لكن رجلاً أربعينياً آخر يرد عليه «دى مية خزان ما ينفعش يتشرب منها أصلاً» يستمر النقاش طويلاً بين الاثنين حتى يصل القطار إلى محطة بنى سويف التى لم يركب منها سوى عدد قليل جداً من الركاب، بينما تعجب بعض الأهالى الواقفين بالمزلقانات من مرور القطار، مشيرين إليه بابتهاج، كما أطل الموظفون الحكوميون بالسكة الحديد والمدارس من نوافذهم لرؤية القطار. شكوى عيسى جرجس من الباعة الجائلين بالقطارات العادية تحققت على أرض الواقع فى القطار المكيف والأول على السكة بعد قرار التشغيل، عندما صعد أحد الباعة الجائلين بمحطة مغاغة وصال وجال فى القطار دون أن يمنعه فرد شرطة واحد من الموجودين وراح يصيح بأعلى صوته معلناً عن بضاعته التى يبيعها، الأمر تكرر فى محطة المنيا حيث صعد هذه المرة أحد المتسولين من كبار السن وطاف فى عربات القطار التسع، لكنه لم يلق اهتماما ملحوظا من الركاب.