نستقبل خلال هذه الأيام أياماً من أفضل أيام الله فى شهر من الأشهر الحُرُم، ألا وهو شهر ذى الحجة، والذى نستشعر معه النفحات العطرة، ونسائم الحج، التى تحن إليه قلوبُنا، وتشتاق إليه أفئدتُنا، وتتجدد كل عام مع بداية ذهاب أفواج الحجيج إلى الأراضى المقدسة لأداء فريضة الحج، حيث تذهب معهم قُلوبنا وعُقولنا نحن وجميع المشتاقين إلى بيت الله الحرام. فأيام شهر ذى الحجة أيام جليلة عظيمة بها العديد من النفحات العطرة، والبركات الكثيرة، والخيرات الوفيرة، أقسم بها الله تعالى فى كتابه العزيز فى سورة الفجر فقال : {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ}، فهى أيام فضلها عظيم، وثوابها كبير، إذ العظيم لا يقسم إلا بالعظيم. فما أجمل هذه الأيام، وما أجمل صيامها الذى يُذكرنا بصيام شهر رمضان، فنحن جميعاً قد اشتقنا لشهر لرمضان، اشتقنا لصيامه، وقيامه، ولكل تفاصيله، ولكن ما يؤنس القلب حقاً إننا أصبحنا فى أيام جميلة ما أشبهها برمضان هى العشر الأوائل من شهر ذى الحجة، ويوم عرفة، ويوم النحر. ذكريات كثيرة تمر أمام عينى كلما جاءت هذه الأيام الغالية، فما أجمل تلك الأيام وياليتها تعود بأحداثها، حينما كنت طفلاً صغيراً، وحينما كنت طالباً فى المدرسة، حينما كنت أذهب وأنا صائماً إلى الدروس الخصوصية ويؤذن المغرب وأنا فى درس العربى، وأحياناً فى درس الرياضيات، وكنت أكسر صيامى بشق تمرة حتى انتهى من الدرس، وأذهب إلى منزلنا لتناول الإفطار وسط عائلتى، التى كنت تحرص على صيام العشر الأوائل من شهر ذى الحجة كل عام. كنت دائماً معتاد منذ الصغر على شراء التمور فى شهر ذى الحجة مثل رمضان، وتوزيعها على الصائمين فى المسجد المجاور لمنزلنا، حتى يُفطروا عليها، وما أكثر الصائمين فى هذه الأيام المباركة، ذات الفضل العظيم، والأجر الكبير. أتذكر المساجد وهى تعج بالمصلين فى هذه الأيام المباركة، وكأننا فى رمضان، وكان عمنا الشيخ «محمد القماش»، يحرص على إعطاء الدروس الدينية دبر كل صلاة، فى مسجد بدر بمدينة بيلا، بمحافظة كفر الشيخ، وهو المسجد المجاور لمنزلنا مباشرة، خلال العشر الأوائل من شهر ذى الحجة، والتى كانت تتحدث فى مُجملها عن فضل هذه العشر، وفضل صيامها، وأيضاً فضائل حج بيت الله الحرام. كنا نجلس بعد كل صلاة فى المسجد نتلو ما تيسر من القرآن الكريم، ونستمع إلى الأحاديث والدروس الدينية التى تكون بكثرة فى هذه الأيام المباركة، كنا نستمع إلى من هم أكبر منا سناً وهم يتحدثون عن الإسلام الوسطى، وعن الحج، وقلوبنا ترجف شوقاً إلى بيت الله الحرام، ولا سيما إننا كنا أطفالاً صغاراً، ولكن كنا على قدرٍ عالٍ من الفهم والاستدراك. فما أجمل هذه الأيام التى تهبّ معها نسائم الإيمان، لتحيا بها قلوب المتشوقين إلى بيت الله الحرام، هذه الأيام التى تُهذب النفس الأمارة بالسوء، وترقى بها نحو محاسن الأخلاق ومكارمها، وتُربى فينا القيم الفاضلة، من خلال الصيام، والصلاة، وتلاوة القرآن الكريم. وما أروع ابتهال «بين الحجيج» لكروان المنشدين الشيخ نصر دين طوبار، رحمه الله، والذى كان يذاع يومياً طوال أيام الحج عبر موجات إذاعة القرآن الكريم، وابتهال «حجاج بيت الله» للشيخ على الزاوى، رحمه الله، وما أجمل تكبيرات العيد التى كانت تصدح بها المساجد من فجر يوم عرفة إلى عصر آخر أيام التشريق. كنا نجلس أنا وأبناء خالاتى، نستمع إلى التكبيرات فى الردايو، وأغانى العيد، وكنا نستمع إلى خطبة عرفات فى إنصات تام، وكنت أذهب مع «عبد الفتاح» ابن خالتى، لنلعب الكرة، وكان يصطحبنى معه يوم وقفة عرفات، حتى أنسى مشقة الصيام وأنا طفل صغير، ولا نعود إلا قبل آذان المغرب بدقائق معدودات، كنا نسير أيضاً فى الشوارع وقت آذان المغرب فلا نجد أى شخص، فالشوارع خالية تماماً من المارة، الجميع صائمون، ويتناولون وجبة الإفطار، وكأننا فى يوم من أيام شهر رمضان المبارك. ذكريات مضت ولن تعود، لاشك أن أيام الله كما هى لم ولن تتغير، ولكن تغيرت نفوس البشر فشعرنا بتغير الأيام، فالحج كما هو بشروطه وأركانه وواجباته، والصيام كما هو مثلما اعتدنا عليه كل عام، ربما فقدنا أشخاص كنا نشعر معهم بجمال هذه الأيام، ولكن ستظل أياماً جميلة، بها الكثير من التجليات والدروس الواضحة. وصدق رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، حين قال : «إن لربكم فى أيام دهركم نفحات، فتعرضوا لها، لعل أحدكم أن يصيبه منها نفحة، لا يشقى بعدها أبداً»، فهذه الأيام من النفحات الربانية، التى اختصها الله سبحانه وتعالى بالكثير من الخصائص والمزايا والمنح، وعلينا جميعاً أن نجتهد فى هذه الأيام، ونعمل على بذل العطاء والتضحيات حتى نرضى الله عز وجل. أخيراً.. نصيحتى للجميع، ولنفسى قبلهم .. اغتنموا هذه الأيام، ففيها ثواب بلا مشقة، وأجر كبير من الله عز وجل بأقل الأعمال الصالحة، احرصوا فى هذه الأيام على الصيام والصلاة وتلاوة القرآن الكريم لتنالوا الأجر العظيم والثواب الجزيل، عسى الله أن يُوفقنا ويهدينا سواء السبيل.