تحنو أيديها على وجنتيه، وترفع صوتها بالقرب من أذنيه "اصحى يا جابر.. يلا يا بني يا حبيبي هتتأخر على المدرسة"، يصحو من نومه، في دقائق يرتدي ملابسه المدرسية، وتتقدم الحاجة فاطمة إلى جوار ابنها، وببسمة تغلق له أزرار سترته وتقبله، كعادتها كل صباح، وهو مسرعا يرفع حقيبته، ملهوفا على الخروج.. خارج المنزل يهاتفه مجهولا ليخبره بإصابة صديقه محمود سعيد بشارع يوسف الجندي، فيخرج بلا عودة. تغفو السيدة الخمسينية، بعد رحيل نجلها عن المنزل، فتراه في منامها، طفلا ما زال في مهده، يلتف حوله أغراب متشحين بالسواد، ويلقوا به في اليم.. فتنفض الأم من نومها لتلتقط الهاتف محاولة الاتصال به.. ولا يجيبها أحد. تهرع الأم الثكلى والأب المكلوم، إلى شارع محمد محمود، المجاور لمسكنهم ب"عابدين" للبحث عن نجلهما، يقف الأب في نفس المكان الذي سقط فيه نجله، يحدثه الجالسون إلى جوار قطرات الدم على رصيف مدرسة الليسيه، عن مصابين تم نقلهم إلى مستشفى قصر العيني. بأيدي مرتعشة وقلب مرتجف يرفع هاتفه ليتصل "عم صلاح" بحركة 6 أبريل؛ ليطمئن عاى جابر، ليتأكد من أن الدماء التي تلطخ الرصيف بها هي دماء نجله، الذي نقل إلى المستشفى مصابا بطلقات الغدر. يتجه "عم صلاح" و"ماما فاطمة"، كما يجب أصدقاء "جيكا" أن ينادونهما، إلى مستشفى قصر العيني، وداخل العناية المركزة، وجدا جيكا طريح الفراش.. افترشت الأم الأرض، من الصدمة وكل ما تتمناه أن تلقي نظرة أخيرة على ابنها، بعد تأكيد أطباء المستشفى وفاته إكلينيكيا، دخلت عليه وقبلته في نظرة وداع أخير. وبعد عام.. ومن داخل غرفة "جيكا" التي حولها الثوار إلى متحف يخلد ذكرى شهداء أحداث محمد محمود، لم تكتمل الفرحة في أعين والدي "جابر" وقتما شاهدا الرئيس المعزول محمد مرسي، خلف القضبان، خلال محاكمته بأكاديمية الشرطة، ونيران الغضب لم تنطفئ بعد.. لغياب أحمد جمال الدين وزير الداخلية السابق وقيادات الوزارة عن مشهد المحاكمة بجانب مرسي. ما زلت "ماما فاطمة" بملابسها السوداء، تقبل إحدى صور جيكا المعلقة على الجدار.. تبتلع ريقها، وكأن هناك غصة بحلقها، وتقول: "لما مسكوا مبارك خدوا وزير داخليته معاه، لكن دلوقتي الكل عايز يشيل مرسي.. لكن فين وزير داخلية "مرسي"، وفين قيادات الداخلية.. ولم يكن الأب عم "صلاح" كما يناديه أصدقاء جابر، أحسن حالا من زوجته، قائلا: "ليس الإخوان وحدهم القتلة، فرغم كراهيتي لهم وقسمي منذ استشهاد جابر، بأنه لن يهدأ لي جفن حتى إسقاطهم عن الحكم، ولكن العدالة الحقيقة في القصاص من جميع القتلة وعلى رأسهم قيادات الداخلية وليس الإخوان فقط". ملامح مرسي خلف القضبان وحديثه عن شرعيته، لم يجدا سبيلا إلى عاطفة أبوين، كلاهما ينظر إلى أصابعه التي تتحرك باستمرار خلال المحاكمة وحق نجلهما لم يأت بعد، فهو واحد ممن تسببوا في حرمانهما من ابنهما.. الذي جاء بعد سبع سنوات عجاف، تصفه والدته قائلة: "شعرت ولو كان بدر في ليلة ميلاده، وكان الأطباء يحاولون إخفائهم من المارة لجمال طلته وحسن رؤيته". "جابر" الاسم الذي اختاره له والده، تيمنا باسم والده، ليكون جابر صلاح جابر، ويقول "عم صلاح": "سميته على اسم والدي الله يرحمه، ولكن جيكا كان اسمه بين أصحابه".. الأم ما زالت تتذكر حين دخل عليها "جابر" قادما من محمد محمود بعد مشاركته في المظاهرات، وهي تناديه يا جابر فقال لها: "ماما قوليلي من النهاردة يا جيكا ده الاسم اللي بيندولي بيه صحابي"، ومن حينها بات "جيكا" الاسم الذي اختاره جابر لنفسه، نابعا من حب رفقاء الميدان. ارتداء البدلة العسكرية، حلم كان يراود جابر من صغره، ولكن بعد قيام جنود الجيش بتعرية "ست البنات"، ومهاجمة المتظاهرين، وإطلق النيران على معتصمي العباسية، تحولت وجهته صوب كليتي الآثار لحبه في التاريخ وعشقه لسيرة القدماء، ودأبه على القراءة عن تاريخ الأمم، أو كلية السياسية والاقتصاد، اقتداءً بالدكتور محمد البرادعي، الذي استبدل اسمه باسم والده، كما استبدل "جابر بجيكا"، ليكون "جيكا البرادعي". إلى الآن.. تتسلل الام كل ليلة، إلى غرفة جابر المنزوية في آخر المنزل، في انتظار عودته من التحرير، فقد اعتاد المشاركة في المظاهرات منذ اندلاع ثورة يناير، يحمل رؤية جديدة لمستقبل البلاد، ويطلعها على صوره خلال المشاركة في المظاهرات وتقول: "كان هزاره معايا جميل.. كنت بهرب من كل الناس وأروحله".. تصمت قليلا وتكمل: "كنت حاسة إنه أذكى حد حوليا، وأكتر حد عنده معرفة". قرر الالاشتراك في حركة 6 أبريل.. تقول الأم: "كانوا بيلموا من بعض الاشتراك الشهري بتاع الحركة، وكما كان يلتف أعضاء الحركة بمنطقة عابدين حول جابر، استمر التفافهم حولي ووالده إلى الآن. تكمل الأم حديثها عن مشاركة جيكا في المظاهرات: "خايفين عليك يا جابر".. ويعود ويصاب مرة أخرى في أحداث محمد محمود الأولى والعباسية، بالخرطوش في قدمه، والرد الدائم على كلماتها: "متخفيش لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا".. ويعيد الكرة وتقول الأم: "وبعدهالك يا جابر أخرتها أيه يا بني".. ويرد: "لازم البلد تنضف لازم البلد تبقى كويسة.. عايزين نعيش بكرامة مش عايزين نطاطي تاني لحد". في أحداث العباسية الأولى، داوم الوالدان على الاتصال بنجلهما المرابط بين المعتصمين إلى أن اتصل جيكا بوالده منهارا: "بابا صحبي أسامة مات بين إيدي"، وأغلق الهاتف.. لم يكترث من ضربات العسكر على قدميه، متمسكا بجسد صديقه المدرج في الدماء حتى وصلت عربة الإسعاف التي نقلته إلى المستشفى. يتذكر "عم صلاح" تلك المرحلة من حياة جابر، ويقول: "استمر بجوار صديقه طوال الليل حتى فارق الحياة، ومن وقتها لم يفارقه الحزن، ولم يترك مظاهرة واحدة من أجل حق الشهداء، وطبع صديقه في كل مكان حوله في غرفته وعلى جهاز الكمبيوتر، وعلى تليفونه". على باب منزل "عم صلاح" ما زالت صورة "حمدين صباحي.. واحد مننا" موجودة، منذ علقها الشهيد، إبان فترة الانتخابات الرئاسية قبل يونيو 2012، وكانت العائلة كلها تدعم "حمدين" رئيسا لمصر. لم يوفق "حمدين" في الانتخابات الرئاسية.. وجلس عم صلاح إلى جوار جابر، يقص عليه سيرة حسن البنا، وحكاية التنظيم السري، وسيد قطب، ويروي له عن جرائمهم في الزمن الماضي، وتطلعاتهم للسلطة. يحاول "جابر" أن يثني والده عن مقاطعة الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية، وكأنه يدعوه التصويت لقاتله.. يترك لنجله الحرية في دعم مرشح "الإخوان"، ليخرج جابر في مظاهرة لدعم المرشح الرئاسي محمد مرسي في مواجهة أحمد شفيق حتى يصل "مرسي" إلى سدة الحكم. "ملناش دعوة بالانتخابات خلينا في مرسي وعليه يجيب حق الشهداء ومصابي الثورة وإحنا نفضل وراه وجنبه.. وابتسم وذهب".. كلمات قالها جيكا عقب عودته من المسيرة التي خرج فيها ابتهاجا بفوز محمد مرسي بالرئاسة، ولكن تلك الحالة لم تستمر طويلا.. يقول عم صلاح بنبرة غاضبة: "مرسي مكدبش خبر وخزل جيكا وأصحابه.. كرم المشير وعنان، ورفض يخرج ضباط 8 أبريل واستمرت محاكمات قتلة الثوار الهزلية". مع مرور الوقت، بدأ يشعر جابر، بأن مرسي لن يحقق مطالب الثوار.. "ما حول حب مرسي بقلب جابر، وتبدل بكراهية، وسعا حينها للمشاركة في إخوان كاذبون، وأسس صفحة معا ضد الإخوان". وبينما عم صلاح عائدا لمنزله أخبره الجيران أن الداخلية تجمع معلومات عن نجله، وأن هناك حديثا حول نشاطه السياسي، وبدأ "جيكا" يستقبل رسائل تهديد على تليفونه المحمول، تهدده بحياته، وهو ما يدفع الأبوان إلى القناعة بأن الداخلية هي التي اغتالت نجليهما، عمدا.. تقول الأم: "الداخلية قتلت جابر، وفيه ضابط بعينه كان يقصده.. جاله تليفون من حد مجهول لحد دلوقتي منعرفش مين هو، نزل يشوف صحبه اللي اتصاب فقتلوه". غمرت السعادة قلب الأم، في الثالث من يوليو عقب رحيل جماعة الإخوان، وتوالت التهاني على المنزل الحزين، ربما كانت هناك قناعة أن "جيكا" وصوره التي رسمت في كل شارع ورفعت في كل مظاهرة، سببا في رحيل نظام أفسد البلد. انفرجت أسارير والدي جيكا، وخرجا لميدان التحرير، الأم وسط السيدات، والأب على أعناق الشباب، والهتاف باسم جيكا، وقلوب الأبوين معلقة بحق الشهيد من القصاص، وكأنهما في انتظار تعليق قاتل جيكا على المشنقة.. تقول الأم: "بعد كل ده ومش عارفين ليه لحد دلوقتي بيماطلوا في المحاكمة، وليه لحد دلوقتي القضية مرحتش المحكمة، مع إن معروف مين القاتل". الشخص المجهول الذي اتصل بجابر ليخبره بإصابة محمود سعيد "هو لعز القضية".. تقول الأم بمزيد من التوجس: "في حد مجهول اتصل بجابر قال له صحبك اضرب.. راح على نفس المكان ونفس الضابط اللي ضرب صاحبه هو اللي ضربه، بسبع خرطوشات، في جزع المخ وفي بطنه وفي رجله". يتنبأ الأب بثورة مصرية جديدة لعودة حقوق الشهداء من القتلة "في وزارة الداخلية"، ويقول: " في ناس في البلد ديه فوق الحساب، الداخلية عمرها ما بتقدم القتلة، التستر على المجرمين في الداخلية يزيد من كراهية الشارع لهم، والداخلية ما زلت تعمل لإعادة نظام مبارك". الأخبار المتعلقة: بعد عام من التحقيقات.. يبقى نفس السؤال حائرا: "من قتل جيكا" "جيكا" و"محمد محمود".. هتاف وخرطوش ووصية شهيد وجرافيتي بيده: "الداخلية زي ما هي" "جيكا" كلمة سر الاشتباكات.. ابتكرها أصدقاؤه للتجمع واستخدمتها "البلاك بلوك" في تظاهراتهم غرفة جيكا.. متحف لشهيد "ثائر".. ومشنقة تنتظر "رقبة" قاتله "جيكا".. حكاية شهيد وقاتل مازال حرا