جبل شاهق الارتفاع، لا تستطيع تسلقه إلا بالكاد، لكنه يجذبك ويدفعك لاكتشافه، فتحمل على عاتقك معاناة صعوده، فى الداخل المنظر مختلف، يبدو أكثر سحراً من الخارج، مصاطب وأحجار محفورة على هيئة قضاة، صفوف المتهمين، آثار دماء على الجدران، ليتشكل فى وعيك صورة خيالية عن المكان الملقب بمحكمة الهمامية والذى يقع فى مركز البدارى، بمحافظة أسيوط. كثرت الأقاويل حول هذا المكان الغريب الذى يقع فى سفح الجبل، البعض يقول إنه لأقدم محكمة فى التاريخ، لكن طارق سالم، مفتش آثار منطقة الهمامية، ينفى ذلك ويقطع بأن المكان كان محجراً لتقطيع الحجارة واستخدامها فى البناء، وسبب تسميته بالمحكمة يرجع إلى أن تقطيع الأحجار ترك آثاراً على هيئة قضاة وأحجار أخرى كوّنت صفوف المتهمين، ومن شهرة المكان أصبح مزاراً سياحياً يتوافد عليه الزوار من كافة الأنحاء، يتسلقون الجبل لمشاهدة مناظر الأحجار البديعة، وبحسب «سالم»، فإن المنطقة مدرجة فى هيئة الآثار لكونها تضم بعض المقابر الأثرية التى ترجع إلى آلاف السنين ولا ينقصها سوى اهتمام الهيئة وتمهيد الطريق حتى يتمكن الزوار من الصعود إليها. داخل المنطقة تقع ثلاث وكالات تجارية، «شلبى - الكاشف - لطفى»، ورغم الطراز المعمارى الفريد الذى يميز المكان، فإن أكوام القمامة والمواشى والطيور وأحبال الغسيل الممتدة بين الأعمدة تفسد المنظر، تقول «بدرية» 60 عاماً، واحدة من ساكنى وكالة شلبى: «عايشين هنا منذ سنين طويلة، ورثنا المكان عن أجدادنا وملناش مأوى غيره، ولما جابولنا سكن كان بعيد فى الصحراء ومفيش خدمات خالص هنعيش إزاى هناك»، مطالبة بتوفير سكن آمن وعمل لذويهم حتى يتمكنوا من ترك الوكالة. وفى وكالة الكاشف، جلس رجل يظهر عليه عبق التاريخ وكأنه يذكرنا بما تبقى من حضارتها لم يتفوه سوى بعبارة واحدة: «ما ينفعش تدخلوا علشان الآثار هتيجى تهدلنا المكان وتاخده مننا»، أما وكالة لطفى، فلم يختلف حالها كثيراً، وبحسب أحمد عوض مدير عام آثار أسيوط، فإن الوكالات تعود إلى العصر الفاطمى، حيث كان تجار المغرب والأندلس يستخدمونها كمخازن تجارية لهم يضعون فيها بضائعهم ويفترشون غرف الطابق العلوى للمبيت، وظلت هكذا لعدة سنوات معلماً تجارياً ثابتاً تشتهر به المحافظة وتناقلت ملكيتها عبر الورثة جيلاً تلو الآخر، حيث أصبحت مسكناً خاصاً بهم طمسوا جميع ملامحه الأثرية. وأضاف «عوض» أنهم قاموا بمحاولات عديدة لإخلاء الوكالات، ولكن دون جدوى: «وفرنا وحدات سكنية لهم بقرية منقباد، لكنهم رفضوا تسلمها وأصروا على البقاء، لكن جهودنا مستمرة من أجل إخلاء الوكالات وجعلها مزاراً سياحياً لتنشيط السياحة الداخلية».