أتابع باهتمام تلك الحملة الإعلانية الناجحة التى تدعو للتبرع لصرحين علميين من صروح مصر والعرب التى نفخر بها وهما: مدينة زويل العلمية، ومؤسسة مجدى يعقوب للقلب، والقائم عليهما اثنان من أبناء مصر من خيرة العلماء على مستوى العالم كل فى تخصصه، وأجدنى مدفوعاً إلى تلك الطاقة من الضوء التى انبلجت فى وسط الكثير من الظلام والضباب وعدم وضوح الرؤية والفوضى التى نعيشها هذه الأيام، ويقفز فى ذهنى السؤال: ما الذى ينقصنا لكى نعيد أمجاد أجدادنا من علماء العرب والمسلمين فى القرون الأولى من الإسلام، ولا أقول من القدماء المصريين؟ فى الحقيقة لا بد من وجود بيئة تهيئ المناخ العلمى للعلماء لتقديم أفضل ما عندهم، فهناك عوامل ساعدت على التفوق العلمى فى ذلك العصر منها: 1- الفهم الصحيح للإسلام ودعوة القرآن الكريم وأحاديث النبى إلى طلب العلم والحثّ عليه. 2- حرية الرأى العلمى فلم يتعرض عالم من علماء العلوم البحتة أو التطبيقية لمحنة بسبب رأيه العلمى. 3- رعاية الحكام والولاة للعلماء، والإنفاق عليهم بسخاء، بل كان من بين الحكام أنفسهم علماء. 4- الاستعداد الذهنى والصبر والأناة فى ظل الوفرة الاقتصادية، فالعلم من توابع الاستقرار والحضارة، فما أن استقرت الدولة العربية الإسلامية وازدهرت سياسياً واقتصادياً حتى اتجهت النفوس إلى الحركة الفكرية والعلوم؛ فتُرجمت الكتب الإغريقية والفارسية والسريانية والقبطية والكلدانية، ونُقلت ذخائرها فى العلوم إلى العربية. وبلغت الترجمة أوجها فى عهد المأمون (198 - 218ه، 813 -833م) الذى كان يقبل الجزية كتباً، وكان يدفع وزن ما يترجم ذهباً. 5- اعتزاز العلماء بعلمهم فلم ينزلوا بأنفسهم إلى الاستجداء بالعلم، وكانوا أقرب الناس مجلساً من الحكام تكريماً لمنزلتهم. والمتصفح المنصف لتاريخ الأمة الإسلامية يجد أنّ إنجازاتها الحضارية اتصفت بصفتين بارزتين يوضحهما الكاتب محمود سلامة الهايشة فى كتابه القيم «شخصيات صنعت تاريخاً» هما: أولاً: الإعمار الشامل فى جميع المجالات حيث لم يقتصر التقدم على مجال واحد بل شمل مختلف مجالات الحياة مثل الطب، والفضاء، والبناء، والإنسان، والفن، والزراعة إلخ. ثانياً: اتساع الفاعليات العقلية والعلوم الحياتية إلى جانب علوم الفقه والدين، الذى تجلى فى ظهور علوم مبتكرة ابتكاراً كاملاً مثل: علم أصول الفقه الذى ابتكره الشافعى، وعلم الاجتماع وأصول العمران الذى وضع أصوله ابن خلدون، وعلوم الكيمياء، والصيدلة. وحساب المثلثات والجبر، بالإضافة إلى اكتشاف العرب والمسلمين لعدة اكتشافات كان لها أثر كبير فى توجّه الحياة البشرية وفى تغيير مجرى التاريخ مثل: اكتشاف الدورة الدموية، والتخدير، وخيوط الجراحة، والنظّارة الطبية، وتطوير صناعة الورق، والإبرة المغناطيسية، والبارود، والمضخة الماصة الكابسة التى أصبحت أساساً لمحركات السيارات والقطارات، التى اخترعها الجزرى المولود 1165م، ومن الطريف أن من بين ما ابتكره «الجزرى» اختراع إنسان آلى متحرك للخدمة فى المنزل قبل اليابانيين بقرون عديدة!!.. حيث طلب منه أحد الخلفاء أن يصنع له آلة تُغنيه عن الخدم كلما رغب فى الوضوء للصلاة، فصنع له آلة على هيئة غُلام مُنتصب القامة، وفى إحدى يديه إبريق ماء، وفى اليد الأخرى منشفة، وعلى عمامته يقف طائر.. فإذا حان وقت الصلاة يُصَفِّرُ الطائر، ثم يتقدم الخادم نحو سيده، ويصب الماء من الإبريق بمقدار معين، فإذا انتهى الخليفة من وضوئه يقدِّم له الغلام المنشفة ثم يعود إلى مكانه، والعصفور يغرد!! أما الكاميرا التى أصبحت نواة لكل الأجهزة البصرية والمرئية كالسينما والتلفاز، اخترعها الحسن ابن الهيثم المولود سنة 965م، والرقّاص أو البندول الذى بفضله عُرف الزمن وصُنعت الساعات لدقة القياس اخترعه ابن يونس المصرى سنة 1009م، والجبر وهو علم اخترعه الخوارزمى المولود عام 780م، وكان له الفضل فى تطوير علوم الرياضيات والمحاسبة والكمبيوتر، كما اكتشف علماء المسلمين قوانين الحركة الثلاثة وهى القوانين المنسوبة إلى نيوتن قبله فى القرن العاشر الميلادى، وبفضلها قام علم الميكانيكا الحديث وجميع الآلات المتحركة، وفى علم الجغرافيا اكتشف المسلمون كروية الأرض وقاسوا محيطها، ووصفوا خطوط الطول وخطوط العرض، وعرفوا دوران الأرض حول نفسها، وفى الفيزياء اكتشفوا سرعة الضوء، ومبدأ الجاذبية، وقاسوا الضغط الجوى، وعرفوا الثقل النوعى للأجسام ومركز الثقل، وفى الحساب اكتشفوا الصفر والنظام العشرى. هؤلاء هم أجدادنا المسلمون بحق الذين أعملوا عقولهم فى خدمة الإسلام والمسلمين والبشرية جمعاء، فهل يعى ذلك مسلمو هذه الأيام الذين يتقاتلون على طول الجلباب واللحية، ويعتبرون تدريس اللغات رجس من عمل الشيطان ومؤامرة على الإسلام، وهل نمسك بهذه الفرصة وننصف علماءنا الأفاضل وأمثالهم من أجل عبور آمن للمستقبل من أجل أبنائنا.