«نحن أصحاب الحرف لا يعنينا الترف.. ولنا كل الشرف أننا نحيى المهن.. نحن أهل للبراعة فى أساليب الصناعة»، مقتبساً هذه الأبيات لأمير الشعراء أحمد شوقى باعتباره واحداً من أصحاب المهن التى تتحدث عنهم القصيدة، يعرفنا بنفسه، «سعيد القفاص»، شاب ثلاثينى، ورث مهنتة التى يعتز بها عن آبائه وأجداده، «القفاصين»؛ لقب العائلة والمهنة التى يُعرفون بها بين أبناء جلدتهم. نفس مكان الأجداد يجلس فيه الأحفاد لإنتاج صناعتهم من «جريد النخيل» التى يتناوب عليها أبناء العائلة. خلف جذع شجرة صغير مدفون معظمه فى باطن الأرض باستثناء جزء صغير يمارس عليه «سعيد» الجالس خلفه مهام عمله الإبداعية اليدوية مستخدما يدا واحدة فى الدق على قطع الجريد والأخرى فى المسك والتحكم فى ثبات القطعة التى يعمل بها بمساعدة قدميه التين لا تدخران مجهوداً فى سبيل ذلك، وعينيه اللتين ترسمان وتحددان المكان المستهدف، مستعينا ببعض الأدوات البدائية البسيطة. «الجريد أنواع مثل البلح تماما، وكل نوع له مميزاته؛ فمنها المنتور، والصعيدى، والتمر، والحجازى»، هكذا تحدث حفيد عائلة القفاصين «سعيد» قائلاً: «هناك نوعيات من الجريد مرنة فى الشغل وأنواع أخرى مصمتة وقوية، وتعتبر الأفضل سواء أثناء عملية التصنيع أو استخدام الزبون لها، موضحاً أن الجريد يأتى لهم بعد تقليم النخيل، ثم يتم تنظيفه من الخوص والزعف، وبعدها يُترك فى الشمس من أسبوع إلى ثلاثة أسابيع حتى يجف تماما. وهنا تبدأ المرحلة الثانية بنقل محمود، (الصبى) الذى يساعده، الجريد لكى يتم تقطيعه حسب الشغل المطلوب وبمقاسات محددة ومعينة تتماشى مع الشىء المراد تنفيذه بشاطور أشبه بعدة الجزار يطلق عليه «سكينة»، مستخدماً «إسطمبات» أو «فورم» كما يسميها كمقاسات ثابتة للعديد من القطع المختلفة التى يقوم بتصنيعها. ويبدأ «سعيد» بتخريم قطع الجريد مستخدما قطعتين من الخشب؛ الأولى مربعة «ثقيلة»، كما يسميها، بها مجرى، متعرجة حفرها الطرْق من أجل تخريم الجريد، وأخرى مستطيلة أقل ثقلا من الأولى تُستخدم فى تركيب قطع الجريد بعد تخريمه مع بعضها البعض من خلال الطرْق بها. وتتنوع منتجات صناعات النخيل بين أشكال مختلفة مثل أقفاص فاكهة أو خضراوات، وفانوس رمضان، وشنطة تليفون، حتى تصل إلى طاقم الأنتريه أو سرير من الجريد، لكن المعيار كما يقول «سعيد» هو قدرة ومهارة الصانع على صنع كل جديد فى المهنة. ويرى محمود القفاص الذى يقوم بدور المساعد ل«نجارين الجريد»، كما يطلق عليهم، أن الحداثة لم تؤثر بشكل كبير على مهنتهم التى ما زال عليها إقبال كبير، موضحا أن ظهور الكراسى والبرانيك البلاستيك لم يؤثر بالصورة السلبية على مثيلتها من الجريد، مبررا ذلك بقلة الصناع الذين يجيدون تنفيذ التحف وقطع الأثاث من الجريد الذين يسعى إليهم الناس من كل مكان، وبالإضافة إلى ارتفاع أسعار البلاستيك مقارنة بالجريد. ويصف «سعيد» مهنتهم بأنها لا تعرف الغريب وإنما يتوارثها الأبناء والأحفاد، ويرجع أصل هذه المهنة -كما يجزم حفيد عائلة القفاصين- إلى عهد الأنبياء والصالحين الذين كانوا يمتهنون المهن اليدوية والحرفية، وتوارثها العباد من بعدهم حتى وصلت إلينا، موضحا أنهم يتمسكون بهذه المهنة ليس بهدف الكسب المادى بقدر الحفاظ على توراث المهنة من الأجداد والآباء إلى الأبناء، مضيفا أن هذه الحرفة مصرية خالصة وانتقلت إلى بعض الدول العربية التى تشتهر بالنخيل عن طريق المصريين الذين سافروا إلى الخارج. وتنتشر هذه المهنة فى العديد من قرى محافظات مصر خاصة فى الشرقية والفيوم ودمياط والجيزة والقليوبية وكذلك مدينة إسنا بمحافظة الأقصر، وهناك بعض القرى التى يمتهن أبناؤها صناعة جريد النخيل ويتنقلون فى مجموعات إلى الكثير من المحافظات فى مواسم الفاكهة والخضراوات من أجل صناعة أقفاص لتعبئة هذه المنتجات، كما يحدث فى بنها التى ينتقل إليها «الصنايعية» وقت موسم المشمش، وكذلك العديد من قرى محافظة الإسماعيلية فى موسم الخضراوات المختلفة. وفى الختام يطالب أبناء القفاصين بنقابة أو جهة تعبر عنهم مع غيرهم من أصحاب المهن اليدوية فى مصر، خاصة أن العاملين فى مهنة منتجات النخيل على مستوى الجمهورية يتجاوز عددهم 400 ألف شخص، كما يقدرهم أبناء المهنة، ينتشرون فى جميع ربوع مصر.