وعادت الأمورُ إلى نصابها، وحُلّت الجماعةُ العنيدة، التى صدر قرارُ حلّها عام 1954، لكنها ك«الفينيق» تُبعثُ بعد مواتها. لكن مواتها اليومَ نهائىّ، لأنه بقرار الشعب، لأول مرة فى تاريخها المحتشد بالفضائح والدنايا. وعلى أعضائها إما أن يذوبوا فى مجتمعنا، و«يتمصّروا»، أى يصيروا مصريين، أو يظلوا سرييّن محظورين ملفوظين من المجتمع. كنتُ من أوائل مَن اعتمدوا مصطلح: «أخونة مصر»، ودقّوا نواقيسَ خطره، منذ منتصف 2012. لكن عاصرى الليمون سخروا منّا ومن المصطلح. رأونا مُتطيّرين متشائمين، فلا هناك أخونة ولا يحزنون. ثم ابتكروا، مع فصيل الإخوان والتيار الإسلامى، مصطلحاً مضاداً: «إخوانوفوبيا»، أى «الخوف المَرضىّ من الإخوان»، ثم ألصقوا ذلك المرض بنا، نحن الذين قرأنا تاريخ الإخوان منذ 1928 ونعرف فضائحهم ونوقن أنهم يحملون الخرابَ لمصر. بل جعلوا ذاك المصطلح قنبلة يقذفونها فى وجوهنا كلما كشفنا للناس تاريخ الجماعة الموبوء، لنحذّر من خطرهم. اليوم، نُزع فتيلُ تلك القنبلة، بل اختفت كلمة «إخوانوفوبيا» الركيكة من معجمنا تماماً، بعدما أبصر الشعبُ كله (عملياً) الكود الأخلاقى والوطنى المتدنى لتلك الجماعة، وهو ما عرفناه (نظرياً)، عبر قراءة التاريخ. لكن الإنسان مجبولٌ على تصديق التجربة العملية الملموسة، أكثر من تصديق التاريخ والنظريات والتحليلات، مهما كانت جليةً واضحة النتائج مثقلة بالمؤشرات. كانت تلك هى خُطّة الله لنا؛ أن نعيش التجربة كاملة، مهما كانت مُرّة وموجعة ودامية، لكى نتعلّم. فالله مهتم بأن يُعلّم الإنسانَ منذ الأزل وحتى الأبد. منذ 19 مارس 2011، وحتى 30 يونيو 2013، بدأ القلق يتصاعد داخل أرواحنا بأن ثورة يناير تُسرق من بين أصابعنا، ولكنّا كالمسلوبين لا نأتى حراكاً. فى العام الأخير تحوّل القلقُ خوفاً من غد مظلم تسقط فيه هويتُنا المصرية، وتضيع حدودُنا الدولية، وتتبدل ملامحُنا المجتمعية فنصيرُ شعباً آخر فى إمارة أخرى، بتاريخ آخر، وجغرافيا أخرى! لكن هذا الخوف النبيل، لم يكن إلا فصلاً صعباً من السيناريو الإلهى المتقن المُحكم الذى كتبه الله للدراما المصرية لكى نتعلم، ثم نتحرك، ثم ننتصر فى معركة الخير والشر، النور والظُلمة، التى لا بد أن تنتهى بالنور، وإن تأخر. طوال العام الماضى، كان الناس يسألون فى قلق يتزايد مع فجر كل يوم: «مصر رايحة على فين؟» وكنتُ أجيبُ من يسألنى: «دعوا اللهَ يُكملُ لوحتَه الجميلة ولا تتعجلوا انتهاءها. فالفنانُ العظيم يقبض على الفرشاة والألوان والشخوص وخيوط الدراما، ولا يحب أن يُقاطعه أحدٌ أو يتعجّلَ إبداعَه أحد. تأملوا أية لوحة ل«ليوناردو دافنشى أو ماتيس أو بيكاسو أو رينوار». ثمنها ملايين الدولارات. قمة الاكتمال الفنى والاتزان اللونى، تكاد خطوطُها وظلالُها تنطق بالكلام والشّعر والعمق. لكنكم لو شاهدتموها فى يوم رسمها الأول، أو الثانى أو العاشر، ربما انطلقت خناجرُ نقدكم: هنا خللٌ وعدم اتزان فى مناطق النور والظل، وهنا غاب الانسجامُ بين الألوان، وهنا هارمونية الإيقاع البصرى بين الكتلة والفراغ غير موجودة. اللوحة لم تكتمل بعد!». وكان الوجع الذى عشناه منذ 19 مارس 2011 وحتى قيام ثورة الخلاص 30 يونيو 2013، هو مرحلة ما قبل اكتمال اللوحة. غياب الاتزان وانعدام الهارمونية والخلل فى الاتساق المجتمعى وانهيار كل القيم الجمالية التى علّمتها مصرُ للعالم منذ آلاف السنين. بتاريخ الخميس 11 يوليو 2013، كان مقالى هنا فى جريدة الوطن بعنوان «خطأ مطبعى جارٍ تصحيحه». والعنوان مقتطع من الكلمة التى ألقيتها على منصة الاتحادية يوم 30 يونيو: «الإخوانُ خطأ مطبعىٌّ فى مدونة مصر الناصعة، نعمل على تصحيحه». بعد اكتمال لوحة الله العظيمة، غداً، أو بعد عام، أعدُ نفسى بمقال عنوانه: «خطأ مطبعىٌّ، «تمّ» تصحيحه». آمين.