«أنا مرهق.. ظللت أتكلم قرابة الربع قرن بلا توقّف.. حكيت أشياء كثيرة، وهناك أشياء أكثر لم أحكِها.. وتعبت وأشعر أن كتفىّ تزنان عدة أطنان»، كلمات ربما لم يُخطئها ذلك الأديب الذى استطاعت حكايته أن تشكّل وعى وثقافة جيل كامل من الشباب، فبعضهم عاش أصعب قصص الرعب مع بطله «دكتور رفعت إسماعيل»، وآخرون اخترقوا حدود العالم الضيق إلى رحابة الخيال الواسع من خلال «عبير عبدالرحمن»، وجابوا العالم كله فى جولة اصطحبهم فيها «علاء عبدالعظيم»، لتكون الحصيلة، فى النهاية، كتابات لن ترحل إذا رحل صاحبها، الدكتور أحمد خالد توفيق، بجسده. «اللغز وراء السطور»، اسم لكتاب من بنات أفكار «خالد توفيق»، وتم اختياره ليكون اسماً لفيلم تسجيلى حضر فيه بشخصه وسيرته ليحكى فيه تفاصيل عن إبداعاته، غير أن المفاجأة التى صدمت مشاهدى ذلك الفيلم هو أن باكورة أعمال «توفيق» قوبلت بالرفض من أصحاب إحدى مؤسسات النشر الذين وصفوا تلك الكتابات ب«التافهة والمفككة»، ليعود الأديب الناشئ إلى بيته عازماً على هجر الكتابة، قبل أن تأتيه البُشرى من لجنة أخرى من داخل نفس المؤسسة التى اعتبرت تلك القصص «مثيرة ومشوقة»، لتبدأ ويصبح عام 1992 شاهداً على خطوة أولى فى إبداعات أديب «الرعب والخيال». البعض عاش قصص الرعب واخترق حدود العالم الضيق للخيال الرحب من خلال شخصيات رواياته الكتابة، وفقاً ل«توفيق»، هى مرحلة ولادة بمعنى الكلمة، فالعمل الأدبى يتخلله الألم والخوف والعصبية، التى تستلزم إطفاءها بقدر لا بأس به من السجائر، أثناء خروج العمل للنور، ثم تحل الفرحة حينما يصير مولوداً مكتمل الملامح، قبل أن يتجدد القلق، مرة أخرى، بسؤال سرعان ما يخطر له: «يا ترى فيه طفل تانى؟ ولّا ده الأخير؟». التنوع فى السلاسل والروايات التى قدمها الأديب أحمد خالد توفيق كان هدفه أن يكون متغيراً طوال الوقت بالنسبة لجمهوره، وأن يثبت لنفسه قُدرته على التحرك بين وعاءات مختلفة، وأن يشبع رغباته، أحياناً، فى الحديث عن بعض القضايا مثل «الجنس» و«السياسة»، غير أن أكثر من 20 عاماً من كتابته للسلاسل جعلته يشعر «إنه لو مخبز عيش كان تعب». لم يغفل «توفيق» الحديث عن أبطال رواياته، خلال الفيلم التسجيلى، ف«عبير عبدالرحمن» كانت فتاة رقيقة تجلس إلى جانب نادى فيديو مجاور لبيته، كانت خالية من كل المزايا، تقريباً، إلا من القراءة ب«نَهَم»، فى حين كان «علاء عبدالعظيم» بمثابة شخصية مصغّرة ل«رفعت إسماعيل» الذى اعتبره كاتبه ابنه البكرى وأكثر الشخصيات التى أعطاها من نفسه وقلبه واستحقت تدليله. صانع «لغز ما وراء السطور» عن حياة «توفيق»: رفض اسم «أسطورة العرّاب» تجنباً للمبالغة والمدح موت «دكتور رفعت إسماعيل» أمر لم يندم عليه الأديب المرعب الخيالى، بل قرر تكريمه بإماتته كى يتذكره القراء، دائماً، ويبعثون له برسائل من قبيل: «نفتقدك أيها العجوز ذو البدلة الكحلية»، وهذا أفضل من أن يمل الناس من سيرته ويطلبوا وفاته. فيلم «اللغز وراء السطور»، الذى كان سيناريو وإخراج أحمد أنور، أورد على لسان الدكتور أحمد خالد توفيق لحظة توقّف فيها قلبه عن العمل عام 2011 وأعادته صدمات كهربائية للحياة، غير أن تلك الصدمات لم تشفع لقلبه لحظة أصرّ فيها على التوقف فى مساء اليوم، 2 أبريل، ليتحقق وصف أدبى أحس به «خالد توفيق»، منذ سنوات، هو «أن القطر وصل سيدى جابر وقرّب يوصل إسكندرية.. خلاص قرّب أوى». لا تقُل «العرّاب» واكتفِ ب«لغز ما وراء السطور»، مطلب الدكتور أحمد خالد توفيق الأول من طالب الإخراج بالجامعة الفرنسية الذى اختاره ليكون مادة تدريبه بصنع فيلم تسجيلى عنه. مُحبُّو «توفيق» تلقّفوا الجزء المنشور من الفيلم أمس، فور سماع نبأ رحيل «توفيق»، وجرت مشاركته على نطاق واسع عبر وسائل التواصل الاجتماعى. 10 دقائق هى مدة الفيلم التسجيلى الذى سار نهج أسئلته وفقاً لما كان عليه أسلوب آخر عددين من «سلسلة ما وراء الطبيعة»، التى كان كل حرف من اسم بطلها «رفعت إسماعيل» بداية لقصة قصيرة، فاختار «أحمد أنور» فى فيلمه التسجيلى عن الكاتب أن يكون كل سؤال بادئاً بحرف من اسم «أحمد خالد توفيق»، وحكى وسرد بداياته، وأفصح عن مخاوفه ورغباته فى تسجيل امتد لساعتين لم يُذع منهما غير تلك المدة القصيرة. يقول «أنور»، ل«الوطن»، إنه فى أكتوبر 2017 أبدى رغبته ل«توفيق» بتسجيل فيلم عن مشواره، ورحب الأخير كثيراً، إلا أن اعتراضه كان على اسم الفيلم المقترح «أسطورة العرّاب»، وكشف ل«أنور» عدم حبه لذلك اللقب الذى يراه كثيراً عليه وبه مبالغة ستؤدى لاتهامه بالغرور أو المدح فى الذات، وكان هو صاحب اقتراح اسم الفيلم الذى صار «لغز ما وراء السطور» بما أنه يتحدث عن الكتابة وحياته معاً، وكان ذاته اسم آخر كتاب طرحه فى حينها. حضر «العرّاب» قبل نصف ساعة من ميعاده مع منفذ الفيلم من طنطا، حيث يقطن، إلى القاهرة للتصوير، لم يصدّق «أنور» أنه قابل حلم حياته، شأنه شأن جيل تربى على كتابات «توفيق»، وطال الحديث ساعتين كان فيهما متعاوناً وصبوراً وحكّاء ماهراً، حسب «أنور». بُعده عن السينما كان أكثر النقاط التى رأى «أنور» أنها كانت تسبب غصّة للأديب الراحل، يقول: «كان حلمه وعشقه السينما، وكان نفسه يشوف اسمه مكتوب على الشاشة سواء سينما أو تليفزيون»، تلك الأمنية التى لم تتحقق، وأعرب له «العرّاب» عن عدم معرفته للسبب بعد أن بلغ 55 عاماً قضى نصفها تقريباً فى عالم الكتابة، وكان يُعرض عليه تنفيذ بعض المشاريع سينمائياً، لكنها بعد الوصول لمراحل متقدمة تتوقف لأسباب غير معلومة. ينتوى «أنور» طرح المادة التسجيلية كاملة، تلك التى اضطر إلى إذاعة 10 دقائق منها فقط لتواكب التدريب الذى كان مطلوباً منه ونال استحسان الأساتذة، ليطرح بقية اللقاء، ويوضح: «بفكّر أكبّر الفيلم وأنشر نسخة طويلة منه ويتحط كل الكلام اللى اتقال لأن دكتور أحمد خالد توفيق يستحق».