سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
الموت فى «شربة ميَّه».. حياة بطعم «الفقر والذل والمعاناة» أهالى «كوم غريب» يشربون مياهاً مخلوطة ب«المجارى» عبر «الطلمبات الحبشية».. ويتساءلون: «يعنى إيه حكومة»؟
على بعد نحو 60 كيلومتراً من مدينة سوهاج تقع قرية «كوم غريب»، الداخل إلى القرية التى تتبع مركز طما لا بد أن يمر فى طريقه على عدة قرى كبيرة قبل أن يصل إلى وجهته، إذ إن القرية التى تقع على بعد 4 كيلومترات من الجبل الغربى، تبعد فى نفس الوقت عن طريق الصعيد الزراعى بما يقرب من 10 كيلومترات، ورغم أن القرية أفلتت من الدخول فى تقرير البنك الدولى الصادر قبل أكثر من 5 سنوات عن أفقر ألف قرية على مستوى مصر، فإن معاناة أهل القرية مع مياه الشرب تبدو وكأنها بلا نهاية، إذ لا يزال أهالى القرية التى تبعد عن مجرى النيل الرئيسى عدة كيلومترات يشربون مياهاً ملوثة تأتى إليهم عبر شبكة مياه الشرب التابعة للحكومة، أما الذين يمنعهم ضيق ذات اليد من توصيل المرافق إلى منازلهم، فإنهم يعتمدون على الطلمبات الحبشية فى الوصول إلى مياه الشرب التى تأتى عادة مخلوطة بمياه الصرف الصحى، حيث يستخدم بعض السكان هناك «الطرنشات» البدائية لتصريف مخلفاتهم، نظراً لعجزهم عن التواصل مع شبكة الصرف الصحى الحكومية التى تخترق القرية. حال أهالى قرية كوم غريب لا يختلف كثيراً عن أحوال العشرات من قرى محافظة سوهاج؛ يتحدث مظهر أبودومة، عمدة القرية، 59 سنة، عن أحوالها فيقول إن تعدادها يقترب من 15 ألف نسمة، يشكل السكان المسيحيون منهم نسبة 80%، وتحتوى القرية على نحو 8 كنائس، وأربع مساجد، ومركز صحى، ومدرستين ابتدائيتين، وواحدة إعدادية، بالإضافة إلى مدرسة الكاثوليك التى أقيمت بدعم مباشر من دولة الفاتيكان، لتنضم فى الخدمة إلى مدرسة الكاثوليك القديمة الموجودة فى القرية، التى يصفها العمدة بأنها «من أفضل المدارس على مستوى محافظة سوهاج»، حيث أنشئت فى القرية منذ مائة عام تقريباً طبقاً لكلام العمدة. وبسبب وجود كل هذه المنشآت والخدمات، فإن القرية لم تصنف ضمن أفقر ألف قرية على مستوى مصر، كما يقول العمدة، رغم أن السكان يظلون فى حاجة إلى إنشاء مكتب بريد تابع للقرية يرحم كبار السن من الأهالى من السفر للقرى المجاورة كل شهر للحصول على معاشاتهم، كما تحتاج القرية إلى مركز شباب يستلزم من الحكومة توفير قطعة أرض لإقامته، لخدمة شباب القرية. وبعيداً عن مكتب البريد ومركز الشباب، فإن مياه الشرب فى قرية كوم غريب تعد واحدة من أهم المشكلات التى يعانى منها أهل القرية، إن لم تكن أهمها على الإطلاق، إذ اعتاد الأهالى هناك على انقطاع المياه بالساعات، كما اعتادوا على عدم نقائها عندما تعود مرة أخرى إلى المواسير. وفى نفس الوقت فإن المياه التى تصطبغ باللون الأصفر وأحياناً البنى، تحتوى أيضاً على طعم غريب ولها رائحة نفاذة تشى باختلاطها بمياه الصرف الصحى الذى لا تبعد شبكته عن شبكة مياه الشرب، الأمر الذى أثر بالسلب على صحة سكان قرية كوم غريب، وأصاب عدداً منهم بالفشل الكلوى وفيروس سى، وهى أمراض يؤكد العمدة أنهم لم يكونوا يسمعون عنها من قبل. يتحدث العمدة عن جذور مشكلة مياه الشرب فى قريته، فيقول إنها تعود إلى سنوات طويلة، ومع زيادة شكوى الأهالى قررت الحكومة أن تنشئ مرشحاً لتنقية مياه الشرب، وهو المرشح الذى يقول العمدة عنه إنه كان سيخدم مركز طما بالكامل بالإضافة إلى 36 قرية تابعة له، مع عدد كبير جداً من النجوع التابعة للقرى. ولأسباب لا يعرفها الأهالى ولا العمدة فقد توقف العمل فى المرشح عدة مرات، رغم تدخل نواب مجلس الشعب عن المنطقة قبل الثورة وبعدها، وإلى الآن لا يزال المرشح تحت الإنشاء دون أن تظهر ولو بادرة واحدة تدل على الانتهاء منه فى وقت طال أو قصر. «بنتى جالها فشل كلوى، وبتروح طما عشان تغسل 3 مرات فى اليوم»، يتحدث نعيم فكرى، 54 سنة، عن ابنته الكبيرة التى أصيبت بفشل كلوى منذ عام كامل، الابنة شيرين أم لثلاثة أطفال أكبرهم فى العاشرة من عمرها، فاجأها المرض وفاجأ أسرتها دون أى إنذار، فلا أحد فى العائلة سبق أن أصيب به، والأب يرجع الإصابة إلى شرب المياه الملوثة التى تسبب الأمراض. «نعيم» يعرف جيداً تأثير المياه الملوثة على صحة شاربها، خاصة أنه يرى بعضاً من جيرانه فى القرية يستخدمون فلاتر لتنقية المياه قبل شربها، لكن عمله «على باب الله» يجعله غير قادر على شراء فلتر، والاعتماد هو وأسرته على مياه الحكومة غير النظيفة. ورغم حالة «نعيم» وابنته، فإنه يظل أسعد حالاً من أولئك الذين ألجأتهم حاجتهم إلى أن يعتمدوا فى توفير مياه الشرب على الطلمبات الحبشية. داخل قاعة مظلمة تقف سامية وهيب فى منزلها أمام الطلمبة، تستعين ببعض المياه فى جردل بلاستيك لتضعها فى الطلمبة وهى تحرك الذراع الحديدية بإلحاح، تتأخر المياه لدقائق رغم حركة «سامية» التى لا تتوقف، ثم تظهر المياه أخيراً قادمة من الأسفل لتصب فى النهاية فى الإناء الموجود تحت الطلمبة. «جوزى شغال باليومية، وعندى ولدين وبنتين، ومامعناش ألفين جنيه ندفعوهم عشان ندخل المية»، تشكو «سامية» من الوضع الذى فرض عليها الاستعانة بطلمبة لتوفير حاجاتها من المياه، وفى نفس الوقت فإن «دق» الطلمبة فى الأرض ليس سهلاً كما تقول «سامية»: «اللى بيدق عايز له 200 جنيه، واحنا هنجيبوا منين؟». يتكرر نفس الشىء مع أبوالخير جرجس، 75 سنة، الذى تزيد مشكلة الصرف الصحى من معاناته، إذ إن المنزل الذى يسكنه قبلى القرية غير متصل بشبكة الصرف الصحى، ويضطر إلى تصريف مخلفاته فى طرنش بدائى أسفل منزله، وفى الوقت نفسه يدق الطلمبة الحبشية على بعد سنتيمترات قليلة من الطرنش، ولا يستبعد أن تختلط مياه الشرب بالصرف الصحى، فعلى حد تعبيره: «هنعملوا إيه، والحكومة مش عايزة توصل لنا ولا ميه ولا صرف؟». لا تنتهى معاناة أهالى قرية كوم غريب عند حد مياه الشرب والصرف الصحى ومرشح طما، ولكنها تمتد إلى يوسف ملاك، 40 سنة، الذى يقول إنه يعول 5 أطفال وأمهم، ويعمل باليومية، ويعانى من فيروس كبدى، وكذلك السيد قديس الذى يقول إن قدمه بترت فى عملية جراحية، ولا يطلب من الحكومة إلا كشكاً صغيراً ينفق منه على أسرته.