نحلم هذه الأيام بأن تكون «لجنة الخمسين» المرموقة فى مستوى التحدى الذى تمثله تلك اللحظة الفارقة التى يجب أن تلتقى فيها إرادة كل المصريين حول هدف واحد لكتابة صفحة جديدة فى تاريخ مصر، تكون فيها «السيادة» للشعب. لقد عانى شعب مصر لقرون طويلة من افتقاد القدرة على أن يفكر لنفسه؛ حيث كان الحكام وفقهاء السلطان هم فقط الذين يفكرون ويريدون ويختارون، أما طبقات الشعب، فكانت مثل القطيع لا تفكر ولا تريد ولا تختار. وعندما أراد الشعب أن يخرج من هذه الحالة من القصور، لكى يصبح أفراده مواطنين كاملى الأهلية، خرج فى ثورة يناير، وعندما وقعت هذه الثورة فى كبوة، خرج فى موجة ثورية أخرى فى 30 يونيو. ولن تنجح «لجنة الخمسين» فى مهمتها إذا لم تستطع تأكيد أن «السيادة» يملكها الشعب وحده، ولا يكفى أن تنص على ذلك فى مادة، ثم تسحبها فى المواد الأخرى على طريقة الدساتير السابقة، بل يجب أن تأتى كل المواد معبرة عن ذلك ظاهراً وباطناً دون تلاعب ولعب بالألفاظ لتفريغ الدستور من مضمونه. وأنا أنزه هذه اللجنة المرموقة عن السير على درب اللجان السابقة فى تاريخنا، والتى وضعت كل الدساتير المؤسِسة للديكتاتورية، حتى إن غُلفت بالديمقراطية وزُينت بشعارات الحرية والحقوق الصورية، واللعبة أصبحت محفوظة.. ارفع شعار الديمقراطية، ثم ضع مواد تؤسس لطغيان فرد أو جماعة، وممكن أن تعدل فى مواده ما تشاء من أجل التوريث لفرد أو لجماعة! ومن هنا، ومن أجل ضمان عدم إنتاج ديكتاتور جديد؛ لا بد أن يهيمن على «الدستور الحلم» أن المواطنين هم مصدر السلطة والسيادة والشرعية ولهم حقوق كاملة وشخصية مستقلة، يختارون الحكام ويحددون شكل الدولة التى يعيشون فيها ويضعون للحاكم النظام الذى يسير عليه. ولا يمكن أن يحدث هذا دون أن يتحول المصرى فى الدستور من موجود من أجل الحاكم إلى موجود من أجل الوطن، ويتحول «الوطن» من وسيلة إلى غاية، ويتحول الحاكم من غاية إلى وسيلة، من صانع للأوامر والحاكم بأمره أو بأمر الله، إلى الحاكم بأمر الشعب، والشعب هو مصدر السلطة يمنحها ويمنعها؛ والإرادة الكلية للشعب هى التى تأمر وتفوض. ومن ثم ينقلب منطق العبد والسيد فى كل الدساتير السابقة، ويتحول الحاكم المطلق الدائم المهيمن إلى حاكم نسبى يأتى ويذهب، ويُعين ويُخلع، ويتحول المواطن إلى مطلق.. إن حكم بصوته فى الصناديق أو بأقدامه فى الميادين فقد صار حكمه واجب النفاذ! وهذا الأمل ليس أسطورة؛ فقد حققته دساتير محترمة لم يتدخل فيها «ترزية التشريع»! مثلما حدث فى دساتيرنا السابقة، كما أكده فلاسفة عظام تحولت أفكارهم إلى واقع فى بلادهم منذ أمد بعيد، ويحضرنى هنا «جان جاك روسو» ملهم الثورة الفرنسية الذى يرى أن السلطة التى يكتسبها الحاكم تكون نتيجة العقد الاجتماعى بين كل الأطراف، وهذا العقد ليس عقد إذعان، بل عقد يظل الشعب فيه هو أساس شرعية النظام السياسى وهو مصدر السلطة وهو أيضاً الممارس لها وفق الآليات الديمقراطية. وعندنا فى مصر فهم البعض خطأ أن انتخابه رئيساً معناه أنه أصبح الحاكم المطلق، وعلى الجميع أن يطيعوه؛ أليس هو رئيساً منتخباً! فالرئيس المنتخب عنده هو وحده صاحب السيادة والشرعية، يحكم ويشرع، ويعطى ويمنع، ويحرك الجيوش، ويتسلط على القضاء! وهذه ليست سمة تخص رئيس الجمهورية المنتخب فقط، بل هى سمة الكثير من المنتخبين فى أحزاب بلدنا المحروس! فانتخابهم يعنى عندهم شرعية التسلط والتحكم فى العباد! فالوطن أو الحزب مثل «السمكة» يمسكها من رأسها ثم ينفضها أعلى وأسفل وشمالاً ويميناً، ثم يضربها أرضاً ما شاء! أليس هو الرئيس الشرعى! والأصل الفلسفى لهذه الحالة من الغباء الديمقراطى نجده عند الفيلسوف الإنجليزى هوبز فيلسوف الاستبداد بامتياز، والذى ذهب إلى أن الفرد ينقل حريته كلها إلى شخص آخر (أو مجموعة)، وهنا يتحول إلى فرد من الرعية خاضع لحاكم، يكون صاحب السيادة Sovereign The، أى صاحب سلطة مطلقة وشاملة ودائمة، وتشمل حق اتخاذ أى قرار سواء كان سياسياً أو اجتماعياً أو اقتصادياً أو قانونياً، مثل: حقّ وضع القوانين، وحقّ إعلان الحرب والسلام، وحقّ إقرار وسائل السلم والدفاع، وحقّ إقرار الآراء والعقائد التى على الرعايا أن يعتنقوها، وحقّ المحاكمة، وحقّ الثواب والعقاب، وحقّ انتقاء جميع المستشارين والوزراء والإداريين والموظفين، فالحاكم هو صاحب السيادة، ويجمع فى يده كل السلطات، فهى كلية لا تتجزأ ولا تنتقل ولا تُسحب! وهنا يلتقى «هوبز» مع «ميكيافللى» حبيب المستبدين، فى رفض الإرادة الشعبية، كما يلتقى معه فى الانحياز الكامل للحاكم. ولذا، يجب أن توضح «لجنة الخمسين» -التى نضع عليها آمالاً كبيرة- أن الحاكم ومن معه من القائمين على السلطة التنفيذية هم مجرد «موظفين Officers» عند الشعب، والشعب يقدر أن يعينهم وأن يعزلهم طالما لم يلتزموا ببنود العقد. وهذا ما ذهب من قبل «جون لوك»، ملهم الدستور الأمريكى عندما أعطى المواطنين الحق فى عزل الحكومة إذا ما تجاوزت وظيفتها بمقتضى العقد الاجتماعى، فلهم كلّ الحق فى عصيانها وإسقاطها. كما على «لجنة الخمسين» أن توضح الدستور أن علاقة المواطنين مع بعضهم بعضاً ليست رأسية من أعلى إلى أسفل بين حاكم ومحكوم، بل هى علاقة أفقية بين الجميع. إن الدستور هو أساس شرعية النظام السياسى، وهو منشأ الحكومة بوصفها شرطاً لانتظام المجتمع، والدستور هو نص العقد بين المواطنين؛ وهو المعبر عن إرادة الشعب؛ فالإرادة العامة للمواطنين هى مصدر العقد الأصلى وهى أيضاً نتيجة له، ولذا فهى صاحبة السيادة وليس الحاكم. ومن هنا يكون المواطن هو أساس الدستور، ويكون الوطن هو غايته، فالحاكم من أجل الوطن، وليس الوطن من أجل الحاكم. هذه هى الأمانة التى تحملها «لجنة الخمسين»، وهذا هو الأمل السياسى الذى يتطلع إليه الوعى المصرى فى الدستور الجديد، والذى سوف يتغير بعده تاريخ العرب، مثلما تغير تاريخ أوروبا بعد تغير تاريخ فرنسا.