هذا حديث من القلب إلى القلب.. ويشهد الله أننى لا أبتغى به إلا وجهه سبحانه وصلاح هذا البلد. يا شعب.. نحن نسير فى اتجاه خاطئ تماما، ليس على المستوى السياسى، ولكن على المستوى الاجتماعى، ليس على مستوى من يحكم مصر، ولكن على مستوى علاقات أفراد المجتمع بعضهم ببعض. نحن نفقد أهم ما يمكن أن تبنى به أمة وينهض به شعب وهو «ثقتنا فى بعضنا البعض». نحن شعب «مناعته الأخلاقية والعقلانية» ضعفت بشدة، يعنى ببساطة ممكن أى حد يلعب بنا «الكورة ويودينا ويجيبنا». لو أراد أعداؤنا أن يشغلونا بفتنة داخلية لعدة أسابيع أو أشهر، ماذا يفعلون؟ الإجابة: يقوم أى عميل لأى دولة أجنبية بتصوير فيديو لشخص غير مسلم وهو يقوم بسب المصحف الشريف أو بحرقه ويتم وضعها ونشرها على «يوتيوب». هنا ستنفجر الدنيا ضد كل من ينتمى لأتباع هذه الديانة، سواء من داخل مصر أو خارجها. إجابة أخرى: يمكن أن يجعل أعداؤنا أى صعلوك يكتب قصيدة شعر يذم فيها أيا من الأنبياء، عليهم جميعا السلام، فنقع فى بعضنا البعض. إجابة ثالثة: أو يقوم أى تافه باغتصاب فتاة تنتمى لدين مخالف وتصوير الاغتصاب، أو ترويج أى شائعة تنال من واحد من مقدساتنا، فننفجر للدفاع عن مقدساتنا ضد أبرياء لا ذنب لهم، فنجد أنفسنا قد فعلنا ما يريده أعداؤنا منا، بغفلتنا. يا شعب: تعقلوا يرحمكم الله. ولا تجعلونا كمصريين لعبة فى يد من لا يريد بنا خيرا ولا يرحم منا فردا ولا يحترم فينا عهدا. نحن نصدق بسرعة شديدة، وننفعل بسرعة شديدة، ونتصرف بسرعة شديدة دون أن نتعقل بما يكفى. ولا أنسى كيف أن عددا من أهلنا فى بورسعيد خرجوا شاعرين بالظلم بعد قرار المحكمة بإحالة أوراق حوالى عشرين شخصا إلى فضيلة المفتى فى حادثة استاد بورسعيد، وهو حكم أول درجة. ومع الاحتكاك وردود الفعل، مات أكثر من ضعف هذا العدد، مع أن هؤلاء أنفسهم أمامهم فرصة كبيرة لإعادة المحاكمة؛ فأصبحنا نحتج بموت كثيرين على موت قليلين. هل هذا يدخل فى إطار الحكمة أم فى إطار الغفلة؟ هل هذا يدخل فى إطار الرحمة أم فى إطار الغلظة؟ هل هذا يدخل فى إطار حسن التدبر أم سوء المنقلب؟ والأمر لم يكن بعيدا عن كل محاولات إقناع قيادات الإخوان ومناصريهم بألا يصعّدوا خطابهم السياسى وأن يحسبوها بطريقة مختلفة حتى لا تتضاعف الخسائر، لكنهم أبوا إلا أن يجعلوا خسائر المنصب تصبح خسائر للجماعة وأن يجعلوا خسائر الجماعة تصبح خسائر للتيار المنتمين إليه كله. ولهذا ازداد كثيرون اقتناعا بأن أزمة غياب القيادة ذات الرؤية الاستراتيجية وبعد النظر والقدرة على تقدير المخاطر والمكاسب ضربت الجميع، ولم تزل تضربنا مع كل حدث معهم. بالأمس القريب، وجدت أحد مراسلى الصحف الأجنبية فى مصر يرسل لى رسالة ليقول لى: «هل صحيح أنك صرحت ل(بى بى سى) بأن الأقباط يمكن أن يكونوا وراء محاولة اغتيال وزير الداخلية لأنهم يظنون أنه لم يقم بما يكفى لحماية الكنائس؟). وكان ردى عليه مقتضبا بأن هذا لم يحدث؛ فأنا لم أصرح ل«بى بى سى» بأى تصريح، وأنا أكتفى تماما وكلية بما أكتب فى «الوطن» وما أقوله فى «المحور» ولا أزيد. ويوم محاولة اغتيال وزير الداخلية هو يوم تدريس فى الجامعة بالنسبة لى، وقد قضيته من الصباح الباكر حتى المساء فى اجتماعات وتحضير ولقاءات ثم تدريس. ولم أصرح لأى جهة بأى شىء، كما أننى توقفت عن استخدام أدوات التواصل الاجتماعى (الفيس بوكبوك والتيوتيرز) كأداة للتواصل السياسى؛ لأن الفجوة بين ما هو «سياسى» وما هو «اجتماعى» فى الفضاء الإلكترونى كبيرة. وهى أدوات خُلقت فى الأصل للتواصل الاجتماعى؛ حيث المصطلحات محددة والمفاهيم واضحة، أما التواصل السياسى فيحتاج درجة أكبر من العمق والقراءة والنقاش، وهذا صعب على «الفيس بوكبوك» أو مع المتوترين (أى مستخدمى تويتر). ومن يرى غير ذلك فهذا حقه الذى لا أنكره عليه. وبعد أن عدت إلى منزلى وجدت أصدقاء لى، وبعضهم مديرو صفحات التواصل الاجتماعى الخاصة بى، يبلغوننى بأن التصريح المنسوب لى زوراً تم تداوله بكثافة نسبية، ووجدت بعض الأصدقاء من الإخوة الأقباط يتواصلون معى بشأن هذه المسألة. وهنا جاءت لى الفرصة أن أتحدث تليفونيا مع أحدهم بشأن التصريح المنسوب زوراً وبهتاناً لى ليبلغنى أن أحد قيادات الكنيسة الذى تربطنى به علاقة طيبة منزعج من الأمر. طبعا نفى الخبر أراح بعض أصدقائى كثيرا. وهذا أسعدنى، لكن الدرس الماثل أمامى هو أننا مجتمع سهل للغاية أن ننقاد إلى الفتنة لأننا لا نستخدم الأدوات المتعارف عليها إنسانيا بأن نتحقق قبل أن ننفعل ونتصرف: Trust and Verify، أى: ثق فى الناس وتحقق مما يقولون. وهذه المقولة كان الرئيس الأمريكى رونالد ريجان كثيراً ما يكررها، وهى فى أصلها مقولة روسية قالوها له حتى يستخدمها فى لقاءاته مع الرئيس السوفيتى ميخائيل جورباتشوف، ولأنها لاقت هوى عنده ظل يكررها كثيرا. «ثق فى الناس ثم تحقق مما يقولون» والمعنى المقصود: لا تصدق شيئا سلبيا يُنسب إلى أحد قبل أن تتحقق. وهو نفس المعنى العظيم المذكور فى القرآن الكريم: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ». وهذا الكلام تحديدا موجه للأصدقاء الفيس بوكويين والمتوترين لأنهم يقضون وقتا طويلا عليهما. وبالمناسبة جربوا أن تمتنعوا عن هذه الأدوات لمدة ثلاثة أيام، ستجدون حياتكم أفضل كثيرا، وستعتادون على غيابهما وربما يتحولان عندكم إلى شىء هامشى. أتذكر مثلا كوريا قاله لى أستاذ علوم سياسية من هذه المنطقة من العالم: «لا تجعل عقلك حذاء فى قدم أحد يذهب به حيث يشاء». أى: تبين وتحقق وتثبت مما يقال لك واعقل وتفكر قبل أن تتخذ أى قرارات. حين أقرأ فى تراثنا الفكرى، أجد أن فكرة «الوشاية» حاضرة بشدة. أى أن «يشى» شخص بشخص، سواء بكذب أو بصدق، وكيف أن الكثير من الفتن الكبرى فى تاريخ العرب قبل الإسلام ثم المسلمين كانت ترتبط بأن فلانا قال عن فلان كذا، فتثور قبيلة فى مواجهة قبيلة، حتى إن الرسول، صلى الله عليه وسلم، أراد ذات مرة وأد فتنة كادت تنشب بين الأوس والخزرج، فقال لهم: «دعوها إنها منتنة». وكان يتحدث عن العصبية والقبلية وما يرتبط بهما من حمية مفتعلة أحيانا. ومن يقرأ عن مواقع الجمل وصفين والفتنة الكبرى يتعجب كيف كان أجدادنا على هذه الدرجة من الاستعداد لتصديق الوشايات والانفعال بها والتصرف على أساسها. ذات مرة، وجدت ابنى الطفل الإنسان الصديق «أدهم» منفعلا بشدة على أخته المربية الفاضة بنتى «زينة»، فعاقبته أمه عقابا شديدا، فبكى وجاء لى يشتكى. ولعلمى أنه يحب كرة القدم، بحثت على «يوتيوب» عن مشهد اللاعب زين الدين زيدان وهو «ينطح» لاعبا إيطاليا فى نهائى بطولة كأس العالم فى سنة من السنين. كما تتذكرون حضراتكم: تم طرد اللاعب وفقدت فرنسا أفضل لاعبيها ثم خسرت البطولة. مناعة اللاعب النفسية والذهنية كانت ضعيفة فى هذه اللحظة، وكان ثباته الانفعالى أقل كثيرا من مستوى التحدى، فخسر وأخسر فريقه. وهذا ما يحدث فى مصر كذلك على مستوى المنزل والعمل والقرار السياسى عند الحكومة والمعارضة. أتمنى أن نبدأ فى التفكير فى مصالحة مجتمعية بين المصريين، وليست سياسية؛ فهذه الأخيرة ذهبت ولن تعود قريبا. من أجل مصر ومستقبل هذا البلد، كفوا عن الشتائم وردود الفعل الغاضبة؛ لأنها لا تزيد الأمور إلا سوءاً. وتذكروا قول الرسول الكريم: «لا تغضب، لا تغضب، لا تغضب». أحد الأصدقاء الفيس بوكويين هاجمنى بشدة وشتمنى بالأب والأم وكل حاجة بسبب التصريح المشار إليه، فأوضح له مدير الصفحة أن التصريح المشار إليه مكذوب وأننى لم أنسب للإخوة الأقباط أى شىء له علاقة باغتيال وزير الداخلية، فرد علىّ قائلا: «أشكر حضرتك على ردك المهذب رغم وقاحتى وبذاءة أسلوبى فأرجو منكم قبول خالص أسفى واعتذارى.. معلش أنا مش عارف أعاقب نفسى إزاى والله، لكن مرة تانية حقك على راسى وراس اللى خلفونى وأرجو متابعة المواقع الإلكترونية التى من الممكن أن تنشر أكاذيب والتى من شأنها إعطاء صورة مشوهة عن الأستاذ معتز». فكان ردى عليه: «ولا يهمك يا صديقى.. تحديات الحاضر أكبر مننا كلنا، ولازم نستحمل بعض. ولا تشغل بالك أنا اتعودت على الشتيمة خلاص. بس خد بالك المرة الجاية. تحياتى». هذه هى كلمة السر: «نستحمل بعض» حتى لا نكون الجيل الذى ضيّع البلد. يا رب نجِّ مصر من سوء سلوكنا، وارفع مناعتنا ضد الأكاذيب والشائعات وسوء الفهم وسوء السلوك ونجنا ونج بلدنا من سوء المنقلب.. آمين.