استطاع العباس بن عبدالمطلب أن يقنع علياً (رضى الله عنهما) بسؤال النبى (صلى الله عليه وسلم) فيمن يكون الأمر من بعده، دون أن يطلب الحكم -بحال- لبنى عبدالمطلب، ومن الوارد أن يكون العباس قد طلب ذلك بناء على ما يحتمل أن يكون قد سمعه من أمر الكتاب الذى أراد النبى (صلى الله عليه وسلم) أن يمليه وحال دونه عمر بن الخطاب، فرغب العباس فى حسم الأمر بصورة واضحة، وربما يكون قد أحس أن النبى يمكن أن يعهد بالأمر من بعده إلى على بن أبى طالب، رغم حداثة سنه قياساً إلى الشيخين الجليلين أبى بكر وعمر، وقد قرأ فى إصرار النبى على تولى أسامة بن زيد قيادة الجيش الذى يوجد فيه أبوبكر وعمر وكبار الصحابة مؤشراً على ذلك، رغم أن أسامة بن زيد وقتها كان فى السابعة عشرة من عمره. يضاف إلى ذلك أن زخماً من التأييد كان يتقاطر على «على» رضى الله عنه من فريق الأنصار، إذ كانوا أكثر ميلاً إلى ربيب بيت النبوة، ومن يراجع هذه الواقعة التى حكاها «ابن الأثير» فى كتابه «الكامل فى التاريخ» يستطيع أن يستدل على ذلك: «لما توفى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، اجتمع الأنصار فى سقيفة بنى ساعدة ليبايعوا سعد بن عبادة، فبلغ ذلك أبا بكر فأتاهم ومعه عمر وأبوعبيدة بن الجراح، فقال: ما هذا؟ فقالوا: منا أمير ومنكم أمير. فقال أبوبكر: منا الأمراء ومنكم الوزراء. ثم قال أبوبكر: قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين عمر وأبا عبيدة أمين هذه الأمة. فقال عمر: أيكم يطيبب نفساً أن يخلف قدمين قدمهما النبى صلى الله عليه وسلم؟ فبايعه عمر وبايعه الناس. فقالت الأنصار أو بعض الأنصار: لا نبايع إلا علياً». ولم يكن ثمة فريق يعانى القلق قبيل وفاة النبى (صلى الله عليه وسلم) قدر هذا الحى من الأنصار، إذ أرادوا أن يطمئنوا على وضعهم فى الدولة، وكانوا يخشون أن يستأثر المهاجرون بالأمر من دونهم، وكان بنو عبدالمطلب هم الأكثر قرباً من الأنصار، وكان الأنصار بدروهم أكثر ميلاً إلى هذا الفريق من المهاجرين. وقد اجتهد كل من على بن أبى طالب والعباس بن عبدالمطلب والفضل بن العباس فى نقل تلك الحالة من القلق التى انتابت الأنصار إلى النبى (صلى الله عليه وسلم). يروى صاحب السيرة الحلبية أن «الأنصار لما رأوا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يزادد وجعا طافوا بالمسجد وأشفقوا من موته صلى الله عليه وسلم فدخل عليه الفضل (رضى الله تعالى عنه) فأخبره بذلك، ثم دخل عليه على (كرم الله وجهه) فأخبره بذلك، ثم دخل عليه العباس (رضى الله تعالى عنه) فأخبره بذلك، فخرج النبى (صلى الله عليه وسلم) متوكئا على علىّ والفضل، والعباس أمامه، وهو معصوب الرأس، يخط برجليه حتى جلس على أسفل مرقاة من المنبر، وثار الناس إليه فحمد الله وأثنى عليه، وقال: أيها الناس بلغنى أنكم تخافون من موت نبيكم، هل خلد نبى قبلى فيمن بعث إليه فأخلد فيكم؟ ألا وأنى لاحق بربى وإنكم لاحقون به، فأوصيكم بالمهاجرين الأولين خيرا وأوصى المهاجرين فيما بينهم بخير، فإن الله يقول: والعصر إن الإنسان لفى خسر (السورة)، وأن الأمور تجرى بإذن الله ولا يحملكم استبطاء أمر على استعجاله، فإن الله عز وجل لا يعجل لعجلة أحد، ومن غالب الله غلبه، ومن خادع الله خدعه، فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا فى الأرض وتقطعوا أرحامكم، وأوصيكم بالأنصار خيرا، فإنهم الذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلكم أن تحسنوا إليهم، ألم يشاطروكم فى الثمار؟ ألم يوسعوا لكم فى الديار؟ ألم يؤثروكم على أنفسهم؟ ألا فمن ولى أنه يحكم بين رجلين فليقبل من محسنهم وليتجاوز عن مسيئهم، ألا ولا تستأثروا عليهم، ألا فإنى فرطكم وأنتم لاحقون بى، ألا وإنه موعدكم الحوض، ألا فمن أحب أن يرده على غدا فليكفف يده ولسانه إلا فيما ينبغى». وأخطر ما يحكيه صاحب السيرة الحلبية فى النص السابق هو تحذير النبى المهاجرين من الاستئثار بالأمر دون الأنصار، وأن لهذا الفريق حقوق فى قيادة الأمة لا تقل عن حقوق المهاجرين، وعدّد النبى (صلى الله عليه وسلم) من أدوار الأنصار ما يمنحهم الحق فى ذلك ويحول دون غبنهم أو تهميشهم.