فى عصر يوم 31 ديسمبر تعرضت «قاعدة حميميم» الروسية لهجوم بقذائف الهاون، وفق الرواية الرسمية الروسية أدى إلى مقتل عسكريين اثنين من قوام القوة الروسية بالقاعدة، وذهبت روايات روسية أخرى إلى التأكيد على تدمير «7 طائرات» كانت جاثمة على مدرج القاعدة. حينها خرجت مروحيات الجيش السورى لتمشط محيط القاعدة بعد الاعتداء، ولم تصل إلى المنفذين رغم وجود إجراءات أمنية مشددة فى هذا المحيط، وضعت بمعرفة كل من الاستخبارات العسكرية الروسية والسورية! اقتصر التعليق الروسى على الإعلان عن مجموعة من المعلومات؛ توصلت إليها جهات التحقيق العسكرية، أهمها أن الهجوم استخدم فيه مدفع من نوع «فاسيلوك» السوفيتى الذى يعود لخمسينات القرن الماضى، واستخدامه من قبل الإرهابيين جاء لخفة وزنه، ما يكفل سهولة نقله بالقرب من الهدف، حيث يصل مداه لنحو (8 كم)، فضلاً عن عجز المضادات المعروفة الآن فى اعتراض قذائفه، وتأكدت جهات التحقيق من أن الجيش السورى لا يملك هذا الطراز، ولهذا رجحت أن يكون المنفذون قد حصلوا عليه من تركيا. هذه بداية فقط؛ فلم تكن أيام قليلة لتمضى حتى تعرضت روسيا لصدمة قاسية، عندما حلقت مجموعة من الطائرات المسيرة «الدرونز» مساء 6 يناير، فوق كل من قاعدتى (حميميم، وطرطوس)، المكدستين بعدد كبير من المقاتلات الحربية الروسية المتطورة والعسكريين، وفى الثانية القطع البحرية وأنظمة الدفاعات الجوية والرصد الاستخباراتى المتطور، ربما لوهلة دار الجدل المتعلق بالعدد الذى حدد ب«13 طائرة» بحسب وزارة الدفاع الروسية، لتخرج صحيفة روسية سفابودنايا بريسا بعد أيام، لتؤكد أن العدد الحقيقى هو «30 طائرة» شاركت فى الهجوم، لكن حقيقة الأمر تجاوزت هذا الجدل، فهناك مدى مفتوح للخطر مرشح لأن يذهب أبعد من ذلك بكثير. وزارة الدفاع الروسية تحدثت بداية بأن وسائط الدفاع الجوى الروسية رصدت «13 هدفاً جوياً» مجهول الهوية، اخترقت مجال المواقع الروسية، عشرة اتجهت إلى «حميميم»، فيما تابعت ثلاثة تحليقها باتجاه «طرطوس»، استهدفتها أنظمة الدفاع الجوى لكلتا القاعدتين، حيث تمكنت من إسقاط سبعة منها، وإنزال ستة عبر التشويش عليها واختراق تحكمها، ليخرج لاحقاً «فرانس كلينتسيفيتش» رئيس لجنة الأمن والدفاع بمجلس الاتحاد الروسى؛ ليذكر بأنه «ما كان للإرهابيين أن يهاجموا المواقع الروسية بالدرونز، بمعزل عن دعم استخبارى ومالى وتقنى، فضلاً عن المكونات المطلوبة لتسيير هذه الطائرات». التصريحات الصحفية خرجت لتحدد منطقة خفض التصعيد فى «إدلب»، كموقع لخروج «الدرونز» باتجاه الأهداف، من «قرية موزرة» جنوب غربى محافظة إدلب، ما وضع الطوق مباشرة فى العنق التركى، وفعلياً الموقع الرسمى لوزارة الدفاع الروسية ذكر أن هناك رسالة تم إرسالها عقب الهجوم، لرئاسة الأركان والاستخبارات التركية، باعتبار تلك المنطقة خاضعة لإشرافها بحسب «اتفاقات آستانا»، لكن مشهداً بهذه الخطورة فى الصراع السورى المعقد بالأساس، لم يكن ليسير على خط مستقيم فى تحديد الجانى، فلاحقاً خرج الرئيس «بوتين» ليعلن للصحفيين الخميس الماضى عن اقتناعه بأن «لا علاقة لأنقرة بهجوم الطائرات المسيرة الذى استهدف القاعدتين فى سوريا»، فقد كان هناك منحى آخر لإطلاق الاتهام تجاه الولاياتالمتحدة، عندما خرج الخبراء الروس ليتحدثوا عن شكوك فى وجود طائرة استطلاع أمريكية، فى سماء المنطقة «قاعدة حميميم» إبان الهجوم، وأن إطلاق هذا العدد الكبير من «الدرونز» كان بهدف إرباك الدفاعات الجوية الروسية، وشل قدرتها على التصدى. هذه التلميحات الروسية المبطنة استدعت رداً رسمياً أمريكياً سريعاً على لسان «إيريك باهون» المتحدث باسم البنتاجون: «إن أى إشارة إلى دور للولايات المتحدة أو التحالف فى الهجوم على القواعد الروسية عار من الصحة، وغير مسئول»، وأضاف: «لا تتوافر لدىّ تفاصيل بشأن ما واجهته قوات روسيا، ولكن أستطيع القول إن تلك الأنظمة متوافرة، ولا يتطلب تشغيلها خبرات تقنية عالية، ويمكن شراؤها عبر الإنترنت، وقد استخدمت تلك الأنظمة المماثلة قبلاً فى سوريا لتنفيذ عمليات استطلاع، ولزرع متفجرات صغيرة، أو إلقائها». بعيداً عن النفى الأمريكى الذى قد يصدق، أو المراوغة الروسية التى كثيراً ما تم استخدامها مؤخراً لاستثمار وإدارة وقائع مماثلة، قد يكون الأهم الاقتراب أكثر من مسرح العمليات على الأرض، التى على سبيل المثال لم تستبعد إيران أو النظام السورى من دائرة الاتهام، وهذا خرج عن جهات التحقيق الاستخباراتى العسكرى الروسى، ليجد طريقه إلى الصحافة الروسية، التى أفردت تحليلات مطولة تضع هذه الفرضية محل اعتبار، ولديها عشرات القرائن قد تدفع كلا الطرفين لتنفيذ عملية من هذا النوع، بحق النفوذ والسمعة العسكرية الروسية، التى صارت تعد بالخصم مما كان يتمتع به النظام وإيران وميليشياتهما. ومما خرجت به جهات التحقيق أن الإرهابيين وللمرة الأولى، استخدموا بشكل مكثف طائرات مسيرة أطلقت من مسافة (50 كم) عن أهدافها، معتمدة على تكنولوجيا متطورة تعمل بتقنية ال«جى بى إس»، كما أظهر الفحص أن جميع طائرات «الدرونز» كانت مزودة بأجهزة استشعار حرارية، وأجهزة تحكم تحدد مسارها وارتفاعها، وظلت على اتصال بالجهة التى تسيرها، وجميعها أطلقت فى وقت واحد، بعدما حُملت بعبوات متفجرة مزودة بصواعق إلكترونية، الأمر الذى يدعو للجزم بأن المسلحين لم يحصلوا على هذه الحلول الهندسية، إلا من خبراء لإحدى الدول. من ذات المقاربة فى مسرح العمليات؛ الأخطر أنه أياً ما كان من يقف وراء الهجوم ب«الدرونز»، فهناك اليوم «تنظيم إرهابى» أو «إرهابيون» قد أمسكوا بهذا السلاح الجديد، وخبروا كيف يحشونه بالمتفجرات، فضلاً عن النفاذ من دفاعات بحجم وقوة المصدات الروسية، لذلك؛ يبدو أننا لا نقص حكاية قد جرت وقائعها فحسب، بل فى حقيقتها هى مشاهد أتت من المستقبل، لتحلق فى فضاء القواعد العسكرية الروسية، فمن فعلها فى سوريا من الممكن أن يفعلها فى أماكن أخرى. ومن سلم بعضهم قذائف ال«كورنيت» قبلاً لينفذ به هجمات نوعية، قادر اليوم على إيصال «الدرونز» لأياد مشابهة، لتحلق باتجاه أهداف أخرى.