منذ ساعات فجره الأولى بدا يوم الأحد الماضى يوماً مختلفاً، ففى صباحه تسمرت الأعين أمام شاشات التليفزيون لترقب حدثاً من الصعب تكراره فى أى زمان وفى أى مكان ولم يصل إليه أبداً خيال أبرع كتاب الدراما الإنسانية، فاليوم كان يوم القصاص من نظامين يفصل بينهما ما يقرب من نحو عامين ونصف العام أذاقا خلالها ملايين المواطنين الكثير..! وعلى الرغم من أن قفص الاتهام فى محكمتين تفصل بينهما عدة كيلومترات كان سيضم فى ذلك اليوم رموزاً لنظامين مختلفين متعاقبين إلا أن كلاً منهما قد خضع لإرادة الشعب التى أسكنته خلف القضبان ليُحاكم على جرائم تشابهت بينهما إلى حد كبير «القتل والفساد»، وإن كان النظام السابق «المعزول» قد تجاوز سابقه «المخلوع» فى قائمة هذه الاتهامات ليصل إلى حد «الخيانة العظمى»!! فى شرق القاهرة أعادت كاميرات التليفزيون مشهداً اعتاد عليه ملايين المواطنين: الرئيس الأسبق «المخلوع» ونجلاه وأذرع نظامه وهو يدخل إلى قفص محكمة جنوبالقاهرة فى أولى جلسات إعادة محاكمته بقتل الثوار والفساد المالى والسياسى.. وفى وسط العاصمة «دار القضاء» كان من المفروض أن يعود رموز نظام اعتقد أنه قد ملك الدنيا فى قبضة يده وبدأ مشروعه الوهمى «الخلافة»، بعد أن اختطف عقول البسطاء واستغل حاجة البعض، وحاول أن يحتفظ بالوطن «رهينة» أو «غنيمة» إلا أن إرادة الملايين قد أجهضت محاولاته هذه وأعادته فى ثوانٍ معدودة إلى مكانه الذى كان قد غادره فى طريقه إلى حكم مصر بعد أن قطع المسافة بين جنوب العاصمة «سجن طرة» إلى شرق العاصمة «قصر الاتحادية» فى 85 عاماً منذ نشأة «جماعة الإخوان» -التى اكتسبت صفة جديدة «الإرهابية»- فى عام 1928. ولأسباب أمنية لم يتمتع مشاهدو التليفزيون بمشهد رموز الجماعة وهم منكسرين خلف القضبان بعد أن كانوا يشرخون حناجرهم بالتهديد والوعيد -على منصتى رابعة والنهضة- وأسقطوا عشرات الأبرياء «شهداء» بعد أن أسالوا دماءهم، أملاً فى أن تبحر سفنهم مرة أخرى إلى قصر الاتحادية فى حلم أصبح الشقيق الرابع ل«الغول والعنقاء والخل الوفى»! على الرغم من أن المشهدين برقا فى لحظات من عمر الزمن إلا أنهما زادا من حالة الانتظار التى نعانى منها قبل مدة ليست قصيرة.. عروق تغلى دماء الكثيرين فيها.. وأخرى سرت فى انفعال انعكس على وجوه البعض فى ابتسامة.. صراخ وعويل.. وهتافات تعيد إلى الأذهان ما اعتدنا عليه منذ عامين ونصف العام! الغريب أن أحداً لم يتوقف أمام حقيقة أن كل ما جرى كان من محض اختيارنا، سواء كان ذلك نتيجة اقتناع البعض به أو جاء نتيجة خدعة تعرّض لها الرأى العام والعقل الجمعى للمجتمع فى مرحلتين مختلفتين، فالمهم أن ما جرى كان بموافقتنا ولم يجبرنا عليه أحد. فى البداية انحزنا إلى ما يمكن أن نسميه ب«الشرعية القانونية» التى أبدلنا بها «الشرعية الثورية» واخترنا إعمال القانون، وهجرنا ما يُطلق عليه النخبة «العدالة الانتقالية» والمحاكم الثورية، فكانت النتيجة محاكمات مطوّلة أصابت الجميع بالإحباط. فى المرحلة الثانية جاء اختيارنا لجماعة الإرهابيين بعد أن نجحت فى اختطاف ثورة الشعب وأوكلنا إليها إتمام مهام الثورة دون أن ندرك أن كل ما كان يهمها هو تحقيق مكاسب لأعضائها دون بقية المواطنين باعتبارهم الوكلاء الوحيدين للإسلام والدين «وشرع الله». فالبعض منا وقع ضحية للخطاب الدينى المخادع.. والبعض الآخر كان يطالب بإتاحة الفرصة أمامهم للتجربة «وإذا فشلت فسوف نزيحهم كما أزحنا نظاماً ظل متمترساً خلف مؤسسات أمنية وقوة باطشة»، هكذا كنا نقول لأنفسنا، لنكتشف فى النهاية أن التمكين والاستحواذ وإعادة فرز المواطنين والإقصاء هو المنهج الذى سارت عليه دون تباطؤ ولم يتحقق أى شىء من أهداف الثورة، بل إن كل ما تحقق هو نبوءة المخلوع «أنا أو الفوضى»، فلا الأمن ساد، وبات العيش مهدداً، وسُحلت الكرامة، ومالت كفة العدالة الاجتماعية تجاه العشيرة والعشيرة فقط، غير أنه فى النهاية انتصر الشعب وتساقطت رموز الجماعة مثلما تتساقط أوراق الشجر فى الخريف! على كل حال فإن المنطق يستوجب علينا أن ننتظر ما ستسفر عنه «محاكمات القصاص» من النظامين التى بدأت بالفعل وأن ننظر إلى ما يجب أن نفعله اليوم «لمستقبلنا» دون أن نستغرق فيما جرى بالأمس فقط فهو «فعل ماضى ما نسيبه فى حاله»!!