أُغرمت فى السنوات القليلة التى قضيتها فى المملكة العربية السعودية بالتراث الفلكلورى العربى السعودى. كنت أغشى مجالس الشعر النبطى فى منطقة نجد، وأتردد بين الحين والآخر على مهرجانات «العرضة النجدية» وهى رقصة بدوية شهيرة كان يؤديها الرجال تحت دقات الدفوف فى بادية نجد، وكنت أنتظر بين العام والعام مهرجان «الجنادرية» السنوى للثقافة والتراث، وهو مهرجان كان يعقده ويرعاه العاهل السعودى الكبير الملك عبدالله بن عبدالعزيز منذ أن كان ولياً للعهد وقائداً للحرس الوطنى. كان المهرجان ولا يزال رسالة ثقافية موجهة للعالم تعكس الانفتاح السعودى على الحضارات والثقافات والفنون والأفكار، حتى ما يتعارض منها مع التوجه الرسمى السعودى، وتعكس النزعات الإصلاحية المبكرة، التى تتطور وتتسع، للعاهل السعودى الكبير. وما زالت الذاكرة تختزن «صورة ذهنية» نادرة، لم يمحُها الزمن، للعاهل السعودى يلوح بسيف ممشوق وهو يرقص العَرضة النجدية فى إيقاع واثق مهيب يذكرك بفارس عربى شب على حليب النوق وشنف سمعه صهيل الخيل وصليل السيوف. وقد استدعت المواقف السعودية الأخيرة القاطعة غير المتحفظة وغير المترددة فى دعمها لمصر وهى تحارب الإرهاب صورة الفارس العربى، وجددت روح الفروسية العربية وأخلاقها من نخوة ومروءة وشهامة ونجدة، كنا نظنها -لانقطاع العهد بها- صفحة من التاريخ العربى طويت واندثرت، فإذا بالملك السعودى الشجاع يجددها ويعيدها سيرتها الأولى، فيقطع بقراره وموقفه دابر مؤامرة دولية كبرى، تحاك منذ سنوات، وكاد حبلها يلتف حول رقبة مصر، فإذا ما حدث، فإن الدائرة سوف تدور على النظام العربى برمته. هذا النظام الذى يتكئ على عمودين راسخين هما مصر والسعودية، وسقوطهما أو سقوط أحدهما هو انهيار للنظام العربى كله. وقد فوت القرار السعودى -الذى قاد وراءه معارضة عربية واسعة- على هؤلاء المتربصين مؤامرة كانت تمهد لعزل مصر دولياً، وابتزازها والضغط عليها، توطئة للانفراد بوحدات النظام العربى دولة دولة وتفتيتها وتقسيمها على خلفيات عرقية وطائفية ودينية وثقافية، فى مشروع، يجرى تنفيذه على قدم وساق، وبانت ملامحه الشائهة فى تقسيم السودان، وتقطيع أوصال العراق، وإنهاء الدولة فى الصومال، وإحلال حكم الميليشيات المتصارعة، والبدء فى تفتيت الدولة فى ليبيا، انطلاقاً من فيدرالية برقة وبنى غازى، وفقدان السيطرة على فزان والجنوب، وكسر شوكة الدولة المركزية فى اليمن وبسط نفوذ «القاعدة» فى الجنوب، والارتداد عن الوحدة. والقرار السعودى -لمن ينظر بعيداً- يقلب الحسابات الاستراتيجية لقوى إقليمية ودولية تحوم مطامعها ومصالحها فى المنطقة لم تبارحها أو تغيب عنها، أو عن المشاريع التى صاغتها مراكزها البحثية لإعادة هيكلة الشرق الأوسط منذ 11 سبتمبر 2011 وحتى الآن وأهمها مشروع القرن الأمريكى الجديد، وخطة السنوات العشر لتغيير الشرق الأوسط من الداخل التى وضعها مايكل لادين المعروف بآرائه المعلنة ضد العرب، ثم مشروع الشرق الأوسط الموسع، وغيرها من مشاريع كان يربطها خط استراتيجى مشترك وهو ردع أى دولة عربية تطمح فى دور إقليمى أكبر وإعادة رسم الخريطة الإقليمية وتغيير هويتها، وهو ما يقتضى تقليص النظام الإقليمى العربى لصالح نظام إقليمى بديل مركزه إسرائيل، وتعديل الوزن النسبى لدول المنطقة، بتقليص حجم ودور الدول المحورية خصوصاً مصر والسعودية، والنفخ فى دور دول أخرى ميكروسكوبية غير محورية حتى تتورم وتسويقها عربياً كنماذج ملهمة للإعلام الحر (قناة الجزيرة) وحرية الرأى والتجارة الحرة، وتمكين المرأة. لقد ضربت ثورة 30 يونيو المصرية هذه المشاريع الغربية فى مقتل وهزمت إحدى ركائزها المحلية، وهى جماعة الإخوان المسلمين، وإذا بالقرار السعودى بدعم مصر فى معركتها ضد الجماعة وإرهابها يطلق رصاصة الرحمة على هذه المشاريع المشبوهة. وكان القرار هو النواة التى تخلَّق حولها موقف عربى أوسع، والنداء الذى تداعت له الأمة من مشرقها إلى مغربها؛ باستثناء صفر أو صفرين لا يغير تجاهلهما من المجموع الحسابى للمعادلة العربية، وبذلك أعاد القرار السعودى ترميم الشروخ فى النظام العربى المترنح تحت سكرات النهاية، لم يبق منه إلا هيكل هرم تديره الدوحة بالريموت كنترول، وتتحكم فيه دبلوماسية الشيكات القطرية. ووجه القوة فى القرار السعودى هو تمرده على الحسابات النفعية القريبة والمصالح الضيقة، ولم يأبه برضا الكبار أو سخطهم، وبعضهم تربطهم بالمملكة العربية السعودية مصالح اقتصادية وعسكرية ضخمة يصعب تفكيكها أو التفريط فيها، واختزل القرار فى ضربة واحدة أهدافاً استراتيجية عديدة، تخدم مصالح عربية مشتركة. كان الموقف السعودى واعياً بأن ما حدث فى مصر ليس خلافاً سياسياً بين جماعات سياسية متنازعة، يلتزم الأشقاء والجيران إزاءه بالحيدة والتجرد، ولكنها حرب ضد الإرهاب الذى لا يتربص بمصر وحدها، وإنما تنتشر كالأخطبوط ذيوله وأذرعه فى المنطقة تمتص رحيق قوتها وتضعف القوتين القادرتين حتى الآن وهما مصر والسعودية على مناهضة المشاريع المعدة لتفتيت المنطقة وتجزئتها، وعلى قيادة مشروع عربى مستقبلى جديد.