هى من أكثر الطرق الصوفية انتشاراً واختلافاً فى الوقت ذاته «العشيرة المحمدية الشاذلية»، عكف مؤسسها «محمد زكى إبراهيم»، فى منتصف القرن الفائت، ليحاول إحداث ثورة فكرية وتصحيحية، للحالة الصوفية المصرية، بعدما رأى منها أقوالا وأفعالا، ادعى أنها لم تكن فى منهج التصوف الحقيقى، ولم يحدثها أقطاب الصوفية الأوائل، فضلا عن أنها لم ترد فى سنة الأنبياء ولا الأولياء الصالحين. وطرحت العشيرة المحمدية الشاذلية بالقاهرة، نفسها منذ بدايات مشوارها الفكرى والدعوى، أوائل القرن الفائت على أنها دعوة إسلامية إصلاحية تجديدية، الدعوة التى لم تقتصر على إعادة تحديث، وتنقية البناء الصوفى فحسب، وإنما كانت لها وجهة نظر شمولية، إن جاز القول، ورؤى إصلاحية لتلك القضايا التى تلتف بالمجتمع المصرى والإسلامى من حولها، رغبة منها فى أن تحيا وسط ذلك كله كجماعة إسلامية، لا تعيش بمعزل عن المؤثرات الداخلية والخارجية، التى تنعكس بشكل أو بآخر على حجم مقدرتها الحقيقية على التعاطى مع مستجدات العصر، ومستحدثاته سواء أكانت فقهية أو علمية محضة. يقول الباحث فى الطرق الصوفية، مصطفى زهران: تطرح «العشيرة المحمدية الشاذلية» نفسها كحركة دينية فكرية أكثر منها طريقة صوفية، تدعو لتحرير المنهج الصوفى الأصيل وفرقه، مما علق بها من منكرات عبر السنين، لتعيد الصوفية لسابق عهدها، ولصورتها كما كانت عليها زمن أسلافها الأوائل المؤسسين، واضعة على عاتقها مهمة أن يكون لها لمسة حقيقية، ودور جاد فى تنقية هذا الطريق الربانى من الشوائب، التى عكرت صفوه، عبر الموالد ومجالس الذكر على حد قولهم. وتسعى العشيرة ل«شمولية الصوفية الحقانية»، لتقف سداً منيعاً أمام الطرق الأخرى التى تسببت فى انشقاقات فكرية داخل الجسد الصوفى، وهو ما كان سببا فى ارتداد الفكر الصوفى عن مساره الصحيح. ويكمل: إلا أن هذه الأهداف التى انطلقت منها «العشيرة المحمدية»، والرغبة فى إصلاح بقية الطرق والسعى لإجراء مراجعات فكرية ومنهجية لمسالكها، جعلها تعيش فى شبه عزلة، إن جاز الوصف، لفترات متقطعة منذ نشأتها التى تعود لأكثر من نصف قرن، حتى الآن، ودفعت بعض الطرق الصوفية دفعاً لانتقادها، نظراً لتلك المسحة السلفية الشرعية التى تميز العشيرة وتوجهها الفكرى. ويستطرد: فى إطار الحملة على الطريقة، وصف بعض ممثلى الطرق الصوفية الأخرى «العشيرة» بأنها جمعية خيرية سلفية تارة، على غرار الجمعية الشرعية بالقاهرة، أو أنها صورة صوفية لجماعة الإخوان تارة أخرى، وعايش مؤسسها، الذى يلقب بالرائد والإمام «محمد زكى إبراهيم»، سجالاً فكرياً امتد لساحات القضاء وكان نهج العشيرة وتوجهاتها الفكرية، غير المرحب بها فى الأوساط الصوفية، دافعا لأن تقفز الطريقة من كونها طريقة تعبدية تقليدية ونمطية بين العبد وربه، بالاختلاء والعزلة عن الناس، إلى الحضور الدائم والتعاطى الشامل مع المجتمع وقضاياه المتجددة، والثورة الدائمة أمام كل مغالِ ومبتدع، وجعلها هذا تتحمل عواقب كثيرة وتبتلى فى مسيرتها الفكرية بكثير من الآلام، وهى تحمل فى جعبتها الكثير من الآمال الإصلاحية. ومن الأهمية أن نعرض أولا للطريقة ونسبها، ف«العشيرة المحمدية الشاذلية» واحدة من الطرق الصوفية السلفية الشرعية، المعترف بها رسمياً من المجلس الأعلى للصوفية فى مصر، ومن مجلس الدولة بجمهورية مصر العربية، ويتصل سندها بالإمام «على أبى الحسن الشاذلى». كتب الشيخ المؤسس للعشيرة المحمدية الشاذلية رسالة خطية، لخصت فكر وعقل هذا الرجل، وعكست همته العالية التى أهلته لأن يكون نهضوياً صوفياً من الطراز الأول، فى وقت كان أدعياء التصوف قد هدموا معبده وتركوا فى أذهان الناس صورة سلبية عنه، وذلك حينما اتُهم فى بدايات دعوته بأنه كبعض أقرانه من الأزاهرة «مجرد رجل دين معمم ومقفطن» فبادر بالرد الجازم فيما نصه: «كتب إلىّ كاتب، يعنفنى بأننى أحبس نفسى فى قمقم التصوف، وأتقوقع فى صدفة التدين المتأخر وأعيش متخلفاً فى عصور الجمود الماضية، بينما نحن فى عصر تقدمى متحضر لم تعرفه دنيانا من قبل». ويقول: «الذى أحب أن يعرفه هذا الأخ وأمثاله، أننى وأنا رجل (معمَّم مقفطن) لا أزال أثقف نفسى، وأزودها بكل ثقافة من المشرق أو المغرب، باحثاً عن الحكمة، جارياً وراء الحقيقة، كلما أذنت لى صحتى وأوقاتى وقدرتى، فكما أقرأ تاريخ الإسلام والفلسفة وتدرج المذاهب، ونشوء الفرق والنحل، وأتابع الصوفية والسلفية، وتطور تاريخ المسلمين، وأتابع أدباء العرب وقصاصيه وناقديه ومهرجيه ومفسديه كذلك أدرس ملامح الفن القوطى وتدرجه من الريسانس، إلى الكلاسيكية القديمة فالجديدة، إلى الرومانتيكية، إلى التأثرية، إلى الواقعية، إلى الرمزية، إلى الالتزامية، إلى التجريدية، حتى (بيكاسو) فى التصوير، و(أندريه) فى الأدب، و(استرافنسكى) فى الموسيقى، وأنا أقرأ ل(شكسبير، وبوب، وشيلى، وبيكون، وهيجل، وفلامريون، وجيته، ونيتشه، إلى سارتر، وسومرت، وبرانسيل)، وأقرأ كذلك ل(رونسار، وفارلين، ورامبو، وبودلير)، وأفرق بين لوحات جنيسبورو، ورينو لذرر، وأميز فى مدارس الموسيقى بين صامويل جونسون، وبوالوا، إلى كل ما يتعلق بفن المسرح والسينما». إلى أن يصل فى الدفاع عن نفسه إلى القول «لست ب(مقمقم ولا مقوقع) ولا جامد، ولا متخلف بحمد الله، إننى أعيش فى عصرى مندمجاً فيه، ثقافة ودعوة ومعاشاً، غريبا عنه أخلاقاً وعبادة واتجاهاً، ولكن على قدر مقدور لا بد منه للدعاة إلى الله «5» (محيى الدين حسين يوسف الإسنوى) مجلة المسلم التابعة للعشيرة. قدم الشيخ المؤسس دعوته الصوفية الجديدة، كونها دعوة صوفية للإنقاذ والتجديد، والتجمع والنهضة، والتصحيح الربانى الحق لا تتقيد بمذهب، ولا بشيخ، بل تخدم كل مذهب وشيخ، فهى من وجهة نظره (جامعة صوفية عالمية) لخدمة التصوف الشرعى والصوفية الواعية. يقول مصطفى زهران: العشيرة ليست دعوة منهجية السلوك، «ولكنها دعوة عامة لخدمة التصوف، وتحريره وتطهيره وكشف كنوزه، والدفاع عنه وبيان فضله، والحفاظ عليه، وإدماجه فى الحياة، وتنقيته من الدخيل والدسيس، والبدع والمناكر، ورفع مستواه، ومستوى رجاله، بكل الوسائل المشروعة علمياً وعملياً، واتخاذ كل هذا وسيلة عملية لخدمة الإسلام وأهله به». وضع الشيخ الراحل، «محمد زكى إبراهيم»، مؤسس الطريقة ورائدها ومرشدها الروحى، أبجديات التعامل مع الآخر-أى من هو دون العشيرة- بصرف النظر عن جنس ودين هذا الآخر، ليكون ذلك بمثابة قاعدة ثابتة ودستوراً، للأجيال المحمدية الشاذلية المتعاقبة والمتوالية. لايمكن الحياد عنها، وحين يُسأل عن موقف العشيرة تجاه «الأقباط» فى مصر، على سبيل المثال لا الحصر. لا يحتمل الأمر للاجتهاد أو التأويل، فالإجابة واضحة والتعريف مسبق، وفقا لما أرساه الشيخ المؤسس. للعشيرة موقف إيجابى، تمثل فى تفعيل الاندماج والتمازج معهم، وغيرهم، قد أوصى بهم الله بأن نبرهم ونقسطهم، وأوصى بهم الرسول الأعظم محمد «صلى الله عليه وسلم» أعظم الوصية. حتى جاء «أن من آذى ذمياً أو حمّله فوق طاقته، كان رسول الله خصمه وحجيجه يوم القيامة» وبخاصة أهل مصر، فقد خصهم الرسول بالعناية، وأوصى بهم خير الوصايا، وكما هو معروف -والقول للشيخ الراحل- أن لنا بهم نسباً وصهراً عريقاً، من هاجر أم إسماعيل ومارية أم إبراهيم بن محمد صلى الله عليه وسلم. وشدد الشيخ «زكى إبراهيم» عبر «مجلة المسلم» الشهرية التى كان يطبعها، وتصدرها العشيرة، على مودة ومجاملة الأقباط الذين هم من أهل الذمة وأوجب التعاون معهم بكل الصدق، وأكد على ضرورة خصّهم بالمروءات، وعدم المجادلة معهم فى الدين على الإطلاق. واستثنى من ذلك رغبة البعض منهم فى التعرف على الإسلام وليس رغبة المسلمين أنفسهم وحسب. وأكدت العشيرة على أن الانتقال نحو العصبية هو الخط الفاصل بيننا -أى العشيرة- وبينهم، وذلك منعاً للفتن، ولسان حال العشيرة يقول «الله ربنا لنا أعمالنا، ولكم أعمالكم لاحجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير». أكدت العشيرة المحمدية الشاذلية بالقاهرة، على أن أهل القبلة جميعاً إخوة، وأنه لا خصومة مطلقة بين مذاهب أهل الله -على حد وصفهم- «المالكية، الشافعية، الأحناف، الحنابلة، الزيدية، الإمامية، الظاهرية، وحتى الشيعة والإباضية، ونظرت العشيرة على أن الاختلاف يكمن فى الفروع وأن الاختلاف ضرورة، وأن الاختلاف على الفرعيات إنما يكمن فى الفهم، والتوجيه، والترجيح، وطلب الحق، فلا خصومة قط. ويؤكد الشيخ «زكى إبراهيم» أن الخلاف على الفروع طبيعة وشريعة. مادام هناك اختلاف فى العقول والتحصيل، والأهداف، وغيرها، وهو بذلك لا يرى اختلافا بين السنة والشيعة الجعفرية الإمامية.