كان المختار - شأنه شأن الشيعة كافة- يبحث عن عدو عدوه «بنى أمية» ليتحالف معه، ومن هنا كان سعى «المختار» إلى عبدالله بن الزبير فى مكة. «دخل المختار المسجد فطاف وصلى ركعتين وجلس، فأتاه معارفه يحدثونه، ولم يأتِ ابن الزبير، وأتاه عباس بن سهل وسأله عن حاله، ثم قال له: مثلك يغيب عن الذى قد اجتمع عليه الأشراف من قريش والأنصار وثقيف؟! لم تبق قبيلة إلا وقد أتاه -يقصد عبدالله بن الزبير- زعيمها فبايع. فقال: إنى أتيته العام الماضى وكتم عنى خبره، فلما استغنى عنى أحببت أن أريه أنى مستغنٍ عنه. فقال له ابن سهل: القه الليلة وأنا معك. فأجابه إلى ذلك، ثم حضر عند ابن الزبير بعد العتمة، فقال المختار: أبايعك على ألا تقضى الأمور دونى، وعلى أن أكون أول داخل، وإذا ظهرت استعنت بى على أفضل عملك. فقال ابن الزبير: أبايعك على كتاب الله وسنة رسوله. فقال: وشر غلمانى تبايعه على ذلك؟! والله لا أبايعك أبداً إلا على ذلك، فبايعه، فأقام عنده وشهد معه قتال الحصين بن نمير وأبلى أحسن بلاء وقاتل أشد قتال، وكان أشد الناس على أهل الشام. ويحار المحلل أمام موقف «المختار» وهو يؤكد على عبدالله بن الزبير ألا يقطع الأخير أمراً دون مشورته وأن يكون أول الداخلين عليه، أو بعبارة أخرى أن يكون شريكاً له فى صناعة القرار، ويسأل: وهل كان المختار يسعى إلى الثأر، أو إلى القيادة والرئاسة، أو كان يهدف من موقفه هذا إلى دفع عبدالله بن الزبير إلى مشاركته السعى للثأر من قتلة الحسين؟ ركب المختار راحلته نحو الكوفة فأخبره أهلها خبر سليمان بن صرد وأنه على المنبر، فحمد الله ثم قال: إن المهدى ابن الوصى -يقصد محمد بن الحنفية- بعثنى إليكم أميناً ووزيراً وأميراً، وأمرنى بقتل الملحدين والطلب بدم أهل بيته والدفع عن الضعفاء، فكونوا أول خلق الله إجابةً. فضربوا على يده وبايعوه. وبعث إلى الشيعة وقد اجتمعت عند سليمان بن صرد وقال لهم نحو ذلك، وقال لهم: إن سليمان ليس له بصر بالحرب ولا تجربة بالأمور، وإنما يريد أن يخرجكم فيقتلكم ويقتل نفسه، وما زال بهذا ونحوه حتى استمال طائفةً من الشيعة وصاروا يختلفون إليه ويعظمونه. فلما خرج سليمان يقصد الثأر لقتل الحسين قام أتباعه بالقبض على المختار، وألقى به فى السجن، فكان يقول فى السجن: أما ورب البحار، النخيل والأشجار، والمهامه والقفار، والملائكة الأبرار، والمصطفين الأخيار، لأقتلن كل جبار، بكل لدن خطار، ومهند بتار، بجموع الأنصار، ليسوا بميل أغمار، ولا بعزل أشرار؛ حتى إذا أقمت عمود الدين، وزايلت شعب صدع المسلمين، وشفيت غليل صدور المؤمنين، وأدركت ثأر النبيين، لم يكبر علىّ زوال الدنيا، ولم أحفل بالموت إذا أتى. كان المختار بن عبيد الله ينوح على الحسين فى سجنه -وربما يكون أول من اخترع فكرة النواح عليه رضى الله عنه- فى الوقت الذى خرج فيه سليمان بن صرد للثأر للحسين، فى ربيع الآخر من عام 65. فلما أتى النخيلة دار فى الناس فلم يعجبه عددهم، فأرسل حكيم بن منقذ الكندى والوليد بن عصير الكنانى، فناديا فى الكوفة: يالثارات الحسين! فكانا أول خلق الله دعوا: يالثارات الحسين. وقيل له: إن المختار يثبط الناس عنك، فأقام بالنخيلة ثلاثاً يبعث إلى من تخلف عنه، فخرج إليه نحو من ألف رجل. فقام إليه المسيب بن نجبة فقال: رحمك الله! إنه لا ينفعك الكاره ولا يقاتل معك إلا من أخرجته النية، فلا تنتظر أحداً، وجدّ فى أمرك. قال: نعمَ ما رأيت. ثم قام سليمان فى أصحابه فقال: أيها الناس، من كان خرج يريد بخروجه وجه الله والآخرة فذلك منا ونحن منه، فرحمة الله عليه حياً وميتاً، ومن كان إنما يريد الدنيا فوالله ما نأتى فيئاً نأخذه وغنيمة نغنمها ما خلا رضوان الله، وما معنا من ذهب ولا فضة ولا متاع، وما هو إلا سيوفنا على عواتقنا، وزادٌ قدر البلغة، فمن كان ينوى غير هذا فلا يصحبنا. وبلغ ابن زياد خبر خروج سليمان، فأرسل إليه الحصين بن نمير فى اثنى عشر ألفاً، فخرج أصحاب سليمان إليه، فلما دنا بعضهم من بعض دعاهم أهل الشام إلى الجماعة على عبدالملك بن مروان، ودعاهم أصحاب سليمان إلى خلع عبدالملك وتسليم عبيد الله بن زياد إليهم، على أن يطردوا أصحاب ابن الزبير بالعراق، ثم يرد الأمر إلى أهل بيت النبى، صلى الله عليه وسلم، فأبى كل منهم، فحملت ميمنة سليمان على ميسرة الحصين، والميسرة أيضاً على الميمنة، وحمل سليمان فى القلب على جماعتهم، فانهزم أهل الشام، وما زال الظفر لأصحاب سليمان إلى أن حجز بينهم الليل. فلما أصبح أهل الشام أتاهم أدهم بن محرز الباهلى فى نحو من عشرة آلاف من ابن زياد، فاقتتلوا يوم الجمعة قتالاً شديداً إلى ارتفاع الضحى، ثم إن أهل الشام تعطفوا عليهم من كل جانب، ورأى سليمان ما لقى أصحابه، فنزل ونادى: عباد الله، من أراد البكور إلى ربه والتوبة من ذنبه فإلىّ، فنزل معه ناس كثير وكسروا جفون سيوفهم ومشوا معه، فقاتلوهم، فقتل من أهل الشام مقتلة عظيمة، وجرحوا فيهم فأكثروا الجراح. فلما رأى الحصين صبرهم وبأسهم بعث الرجّالة ترميهم بالنبل واكتنفتهم الخيل والرجال، فقتل سليمان، رماه يزيد بن الحصين بسهم فوقع ثم وثب ثم وقع. ولما سمع عبدالملك بن مروان بقتل سليمان وانهزام أصحابه صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال: أما بعد، فإن الله قد أهلك من رؤوس أهل العراق، وقتل ملقح الفتنة ورأس الضلالة سليمان بن صرد.