لم تمض سوى ثلاث ساعات حتى كان لبائع الشاى سعد الزايط موضع فى مواجهة تمثال عمر مكرم، وله موقع فى نفوس الباحثين عن رشفات الكيف، وبعض دفء ينبعث من أكواب لم تكن تحسب أبدا أن الأيدى ستتخاطفها وأن ما بها سيزيد من مساحات الصبر فى بعض النفوس القلقة، ومساحات الغبطة فى النفوس التى أقامت فى جنباتها الكآبة عقودا من الزمن. وشاع فى الحوارى التى يقطنها أصحاب الزايط أنه يقف فى ميدان التحرير، يوزع الشاى بيمناه والثورة بيسراه. يهتف ويدق الهواء بقبضته ثم يفردها بسرعة رهيبة ليلتقط الأكواب ويوزعها، وبالخفة ذاتها يجنى النقود ويدسها فى جيب بنطاله. وتوالى هؤلاء الصحاب على الميدان فى الأيام التالية، يهتفون ويبيعون أشياء مختلفة، كشرى، حلويات متنوعة، سجائر، بطاطا ساخنة، حمص الشام. كان الزايط يقف على قدميه نحو عشرين ساعة، يصل الليل بالنهار، وحين يثقل النوم كاهله يسير الهوينى نحو مسجد عمر مكرم، وتحت أى جدار أو عمود يلقى جسده، بعد أن ترك نصبته لصديقه فهمان، الذى كان يقول له دوما: ثورات قوم عند قوم فوائد. حين تنحى الرئيس رقص الزايط ساعة، وظل يبيع الشاى حتى مشارف الصبح، ثم حطت الشمس على رأسه فلمعت دموعه فى خيوط الذهب، وشعر بانكسار وغربة. وقال لفهمان وهو يمصمص شفتيه: انتظرت يوم الرحيل بفارغ الصبر، فلما جاء انقبضت نفسى لرحيلى أنا من هنا. لكن الميدان راح يمتلئ بمظاهرات ضخمة فى أيام جمعة متعاقبة، كلما أعلن عن واحدة منها حمل طاولته وصندوقه الذى يحوى كل ما يلزم لإعداد الشاى، وجاء إلى هنا، حيث المكان الذى رسم حدود رقعته بأصابع قدميه. يقف ويصرخ من جديد: شاى.. شاى يا شباب الثورة. وكان الزايط يتحرك إلى الشوارع الجانبية التى شهدت اشتباكات على مدار أيام متقطعة بين قوات الأمن والثوار حاملا صينية كبيرة، رص عليها أكواب الشاى. يشق طريقه بين الأجساد المتدافعة دون أن يسقط أو يهتز، وهو يوزع الأكواب الساخنة، ويجمع النقود. يلتقط الجنيه ويلثمه بشفتيه ثم يضعه على جبهته، ويلقيه فى جيب صغير شقه فى مريلة بيضاء اشتراها فى أبريل حين عاد الناس إلى الميدان بعد استراحة استمرت خمسين يوما، لم يجدوا فيها شيئا مما طلبوه قد تحقق. مرة واحدة سقطت الصينية من الزايط، حين اصطدمت به دراجة بخارية من تلك التى أحضرها الشبان لنقل جرحاهم وشهدائهم من الخطوط الأمامية للالتحام ضد قوات الأمن. كان الشاب يضغط على البنزين ليمرق من المسرب الذى صنعته له الأجساد المحتشدة متجها إلى المستشفى الميدانى بمسجد عمر مكرم وأمامه تجلس إحدى الفتيات فاقدة الوعى.