يحكى لنا «ابن كثير» رواية أخرى ينبهنا إلى أن قائلها شيعى يذكر فيها: «وقال محمد بن حميد الرازى -وهو شيعى- حدثنا محمد بن يحيى الأحمرى، ثنا ليث عن مجاهد، قال: لما جىء برأس الحسين فوُضع بين يدى يزيد تمثل بهذه الأبيات: ليت أشياخى ببدر شهدوا.. جزع الخزرج فى وقع الأسل فأهلوا واستهلوا فرحا.. ثم قالوا لى هنيا لا تسل حين حكت بفناء بركها.. واستحر القتل فى عبد الأسل قد قتلنا الضعف من أشرافكم.. وعدلنا ميل بدر فاعتدل لعبت هاشم بالملك.. فلا خبر جاء ولا وحى نزل» ولا أريد الاستناد إلى أن الذاكرة الأموية كانت تختزن هزيمة بدر فى ذاكرتها، التى كان من ضمن أسبابها تخطيط النبى صلى الله عليه وسلم وصحابته للهجوم على القافلة التجارية التى يقودها أبوسفيان بن حرب، ولست بحاجة إلى التدليل على اختزان «هند» زوجة أبى سفيان لتلك الهزيمة فى صدرها، وأنها خططت للثأر فى «أُحد»، مستعينة فى ذلك بعبدها «وحشى»، ووجهته بصورة مباشرة نحو قتل حمزة «عم النبى»، ثم بقرت بطنه وحاولت أن تأكل كبده، لكنها لم تستسغها فلفظتها. لا أريد الاستناد إلى كل هذه الوقائع فى إثبات إمكانية أن يكون «يزيد ين معاوية بن أبى سفيان» قد ردد هذه الأبيات، فربما كان تشيُّع راوى هذه الواقعة، كما يؤكد «ابن كثير»، دافعاً له على إلصاقها ب«يزيد»، لكن مما يستلفت النظر فى هذه الأبيات ظهور كلمة الملك من جديد على لسان «يزيد» (لعبت هاشم بالملك.. فلا خبر جاء ولا وحى نزل). فكلمة ملك من صميم «القاموس السياسى الأموى»، وقد كان يزيد يرى أن المسألة فى الأول والآخر هى مسألة «ملك»، مثله فى ذلك مثل أبيه «معاوية» وجده «أبوسفيان». ويمكننا أن نستدل على ذلك مما يحكيه «ابن كثير» نفسه الذى يبرز تبرير «يزيد» لما فعله ب«الحسين» من منظور «قدرية الملك» وأنه يصل إلى صاحبه بأمر الله، ويُنزع منه بأمر الله أيضاً. يقول صاحب البداية والنهاية: «وقيل إن يزيد لما رأى رأس الحسين قال: أتدرون من أين أتى ابن فاطمة، وما الحامل له على ما فعل وما الذى أوقعه فيما وقع فيه؟، قالوا: لا!، قال: يزعم أن أباه خير من أبى، وأمه فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم خير من أمى، وجده رسول الله صلى الله عليه وسلم خير من جدى، وأنه خير منى وأحق بهذا الأمر منى، فأما قوله أبوه خير من أبى فقد حاج أبى أباه إلى الله عز وجل، وعلم الناس أيهما حكم له، وأما قوله أمه خير من أمى فلعمرى إن فاطمة بنت رسول الله خير من أمى، وأما قوله جده رسول الله خير من جدى، فلعمرى ما أحد يؤمن بالله واليوم الآخر يرى أن لرسول الله فينا عدلاً ولا نداً، ولكنه إنما أُتى من قلة فقهه، لم يقرأ: (قل اللهم مالك الملك تؤتى الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء)». ولم يجد «يزيد» غضاضة فى أن يتخذ من نساء بيت النبوة سبياً له ولرجاله، فابن كثير يحكى رواية أبى مخنف عن الحارث بن كعب عن فاطمة بنت على أن «رجلاً من أهل الشام قام إلى يزيد، فقال: يا أمير المؤمنين هب لى هذه (يعنى فاطمة بنت على)، وكانت جارية وضيئة فارتعدت فزعة من قوله، وظنت أن ذلك جائز لهم، فأخذت بثياب أختها زينب وكانت أكبر منها وأعقل، وكانت تعلم أن ذلك لا يجوز، فقالت لذلك الرجل: كذبت والله وما ذلك لك وله، فغضب يزيد فقال لها: كذبت والله، إن ذلك لى، ولو شئت أن أفعله لفعلت، قالت: كلا والله ما جعل الله ذلك لك، إلا أن تخرج من ملتنا، وتدين بغير ديننا، فغضب يزيد واستطار، ثم قال: إياى تستقبلين بهذا، إنما خرج من الدين أبوك وأخوك، فقالت زينب: بدين الله ودين أبى ودين أخى وجدى اهتديت أنت وأبوك وجدك، قال: كذبت يا عدوة الله، قالت: أنت أمير المؤمنين مسلط تشتم ظالماً وتقهر بسلطانك، قالت: فوالله لكأنه استحى فسكت». أمر يزيد بعد ذلك بإعادة أهل البيت إلى المدينة فى رعاية رجل أمين معه رجال وخيل ومعهم على بن الحسين، ثم أنزل النساء عند حريمه فى دار الخلافة، فاستقبلهن نساء آل معاوية يبكين وينحن على الحسين، ثم أقمن المناحة ثلاثة أيام، وكان يزيد -كما يحكى «ابن كثير»- لا يتغدى ولا يتعشى إلا ومعه على بن الحسين، وأخوه عمر بن الحسين، فقال يزيد يوماً لعمر بن الحسين: وكان صغيراً جداً، أتقاتل هذا؟، يعنى ابنه خالد بن يزيد، يريد ممازحته وملاعبته، فقال أعطنى سكيناً وأعطه سكيناً حتى نتقاتل، فأخذه يزيد فضمه إليه وقال: شنشنة أعرفها من أخزم -يقصد خلقاً وطبيعة فى أبناء على- هل تلد الحية إلا حية؟!