سارع أبوسفيان إلى شهادة أن لا إله إلا الله، لأنه كان يقر بها، رغم ما اعتور تصوره العقائدى من فساد، وبالتالى فالمحك الرئيسى لاختبار مستوى قناعة زعيم مكة فى دخول الإسلام ارتبط بالإقرار بنبوة محمد (صلى الله عليه وسلم)، وتلك قال أبوسفيان عنها إن فى النفس منها شيئًا، ولم يشهد بها إلا بعد أن علم أنه هالك إن لم يفعل. ولم يكن موقف هند -زوجة أبىسفيان- أقل إثارة وهى تسلم من موقف زوجها أبىسفيان، يصفها ابن كثير فى «البداية والنهاية» قائلاً: «هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبدشمس بن أمية، الأموية والدة معاوية بن أبىسفيان، وكانت من سيدات نساء قريش ذات رأى ودهاء ورياسة فى قومها، وقد شهدت يوم أحد مع زوجها، وكان لها تحريض على قتل المسلمين يومئذ، ولما قتل حمزة مثّلت به وأخذت من كبده فلاكتها، فلم تستطع إساغتها، وبعد ذلك كله أسلمت وحسن إسلامها عام الفتح بعد زوجها بليلة، ولما أرادت الذهاب إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لتبايعه استأذنت أباسفيان، فقال لها: قد كنت بالأمس مكذِّبة بهذا الأمر، فقالت: والله ما رأيت الله عُبد حق عبادته بهذا المسجد قبل هذه الليلة، والله لقد باتوا ليلهم كله يصلون فيه، فقال لها: إنك قد فعلت ما فعلت فلا تذهبى وحدك، فذهبت إلى عثمان بن عفان، ويقال إلى أخيها أبىحذيفة بن عتبة، فذهب معها فدخلت وهى منتقبة، فلما بايعها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مع غيرها من النساء، قال: على ألا تشركن بالله شيئاً، ولا تسرقن ولا تزنين، فقالت: أوَتزنى الحرة؟! ولا تقتلن أولادكن، قالت: قد ربيناهم صغاراً لتقتلهم كباراً، فتبسم رسول الله (صلى الله عليه وسلم)». تعبر الرواية السابقة عن الانقلاب الذى حدث فى تفكير هند بنت عتبة ما بين عشية وضحاها، ففى العشية كانت «هند» تنظر إلى محمد (صلى الله عليه وسلم) والمسلمين كأعداء ألداء، وفجأة تغير حالها عندما وجدتهم يصلون، فلم تر من هو أعبد لله تعالى منهم. وحقيقة الأمر فإن النفس يداخلها الشك من تلك الرواية التى تعبر عن تحول غير منطقى فى رؤية ونظرة هند بنت عتبة إلى المسلمين، وقد حملت الرواية نفسها ما يؤدى إلى التشكك فيها، فحين طلب النبى (صلى الله عليه وسلم) من هند أن تبايعه على ألا تقتل أولادها، كان ردها: قد ربيناهم صغاراً لتقتلهم كبارا. ويدل هذا الرد على عدم نسيان ثأرها مع المسلمين الذى دفعها ذات يوم إلى أن تمثل بجثة عم النبى وتأكل كبده، وما كان إلا أن لفظته. كذلك لم تكن صلاة المسلمين بالكعبة بالحدث الجديد الذى وقع ليلة فتح مكة وفقط، بل سبق هذا الفعل ذلك التاريخ بعدة سنوات. يحكى ابن الأثير أنه «لما أسلم عمر بن الخطاب جمع أصحاب النبى ومعه حمزة بن عبدالمطلب وصلُّوا بالكعبة، وكان أصحاب النبى (صلى الله عليه وسلم) لا يقدرون يصلون عند الكعبة حتى أسلم عمر، فلما أسلم قاتل قريشاً حتى صلى عندها وصلى معه أصحاب النبى (صلى الله عليه وسلم)». أسلم أبوسفيان وأسلمت هند و«فى النفس شىء»، كما وصف أبوسفيان، وأسلم معهما ولدهما معاوية، وربما كانت سياقات إسلامهم تؤشر إلى أن الثلاثة كانت لديهم رؤية ونظرة محددة إلى الأمر، ملخصها أن محمداً قد ظهر على العرب، وأنه لا بديل عن الاستسلام للموقف، لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً، ومؤكد أن ملك محمد (صلى الله عليه وسلم) قد أعجبهم، وخصوصاً أباسفيان بن حرب، وتمنوا لو تحول هذا الملك إليهم ذات يوم. ويروى ابن الأثير أن أباسفيان لما رأى الجنود المصطفة حول محمد (صلى الله عليه وسلم) من كل اتجاه قال للعباس: «لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً. فقال العباس: ويحك إنها النبوة. فقال أبوسفيان: نعم إذن». فأبوسفيان لم يكترث لأمر النبوة قدر اكتراثه بأمر الملك، وكأنه كان ينظر إلى التحقيق الذى أنجزه محمد على أنه يقع فقط فى سياق الملك! ويروى «ابن عبدربه» -صاحب «العقد الفريد»- أن «معاوية دخل على أبيه حين استعمله عمر (رضى الله عنه) على الشام، فقال له أبوه: يا بنى، إن هؤلاء الرهط من المهاجرين سبقونا وتأخرنا، فرفعهم سبقهم وقصّر بنا تأخرنا، فصرنا أتباعاً وصاروا قادة، وقد قلدوك جسيماً من أمرهم، فلا تخالفن أمرهم، فإنك تجرى لأمد لم تبلغه، ولو بلغته لتنفست فيه». يكاد هذا النص ينطبق على نظرة أبىسفيان للأمر على أنه سباق نحو الملك، وأن الفرصة لم تسنح بعد ليتسيد بنوأمية المشهد، بسبب تأخرهم عن الدخول فى الإسلام، وأن على «معاوية» ألا يستبق الأحداث، وأن ينتظر لحظةً تأتيه يستطيع أن يتنفس فيها على مقعد السلطة بصورة كاملة. وتشهد الأحداث التاريخية التى توالت بعد ذلك أن معاوية كان يفهم الأمر ويستوعب الرحلة التى يجب أن يخوضها، والخطة التى يجب أن يسلكها حق الفهم. وقد استطاع أن يجعل من الشام قاعدة انطلاق له نحو ملك العرب، وعاصمة للخلافة بعد أن ظفر بها.