من جديد يظهر الأنصار فى الصورة، من خلال شخصية قيس بن سعد بن عبادة، وقد كان الأنصار يفضلون أن تذهب الخلافة، إن لم يكن لهم فيها نصيب، إلى على بن أبى طالب، وعندما أتيحت الفرصة من بعده لابنه الحسن بن على سارعوا إلى بيعته، وتزعم قيس بن سعد جيشاً ضخماً، ويذكر أن على بن أبى طالب كان قد ولّى قيس بن سعد بن عبادة ولاية مصر، ثم عزله بعد ذلك عنها، وولاها محمداً بن أبى بكر، ورغم محاولات الوقيعة بينه وبين على، فإنه ظل على ولائه له، وخاض معه موقعة «صفين». وقد كان من الممكن أن يبلى الجيش الذى قاده قيس بن سعد بلاء حسناً ضد معاوية، ويخمد فتنة الشام ليخلص الأمر للحسن، ولكن حدثت أمور أثناء مسير الجيش إلى الشام قلبت المشهد. يحكى صاحب البداية والنهاية تفاصيل ما حدث، ويشير إلى أنه: «لما اجتاز جيش الحسن بالمدائن نزلها وقدم المقدمة بين يديه، فبينما هو فى المدائن معسكرا بظاهرها، إذ صرخ فى الناس صارخ ألا إن قيس بن سعد بن عبادة قد قُتل، فثار الناس فانتهبوا أمتعة بعضهم بعضا، حتى انتهبوا سرادق الحسن، حتى نازعوه بساطا كان جالسا عليه، وطعنه بعضهم حين ركب، فكرههم الحسن كراهية شديدة وركب فدخل القصر الأبيض من المدائن فنزله وهو جريح، وكان عامله على المدائن سعد بن مسعود الثقفى أخو أبى عبيد صاحب يوم الجسر، فلما استقر الجيش بالقصر، قال المختار بن أبى عبيد لعمه سعد بن مسعود: هل لك فى الشرف والغنى، قال ماذا؟ قال تأخذ الحسن بن على فتقيده وتبعثه إلى معاوية، فقال له عمه: قبحكم الله وقبح ما جئت به، أغدر بابن بنت رسول الله؟ ولما رأى الحسن بن على تفرق جيشه عليه مقتهم، وكتب عند ذلك إلى معاوية بن أبى سفيان وكان قد ركب فى أهل الشام فنزل مسكنا، يراوضه على الصلح بينهما، فبعث إليه معاوية عبدالله بن عامر وعبدالرحمن بن سمرة، فقدما عليه الكوفة، فبذلا له ما أراد من الأموال، فاشترط أن يأخذ من بيت مال الكوفة خمسة آلاف ألف درهم وأن يكون خراج دار أبجرد له، وألا يسب عليّا وهو يسمع، فإذا فعل ذلك نزل عن الإمرة لمعاوية، ويحقن الدماء بين المسلمين فاصطلحوا على ذلك، واجتمعت الكلمة على معاوية، وقد لام الحسين لأخيه الحسن على هذا الرأى فلم يقبل منه». لقد عملت الدسائس من داخل جيش الحسن عملها، فأشيع أن قائده قيس بن سعد قد اغتيل على غير حقيقة، وحدث هرج ومرج ما بين الجنود، وأخذوا يضربون بعضهم بعضاً، إلى حد طعن الحسن وإصابته، وقد وصلت أمور الدس والدسيسة حد التخطيط للقبض على الحسن وتقييده وتسليمه لمعاوية بن أبى سفيان، كما اقترح المختار بن أبى عبيد. وكانت النتيجة أن قرر الحسن الخروج من المشهد برمته والتصالح مع معاوية بن أبى السفيان على تنازل الحسن له عن الإمرة. ولما اصطلحا وبايع الحسن معاوية، دخل معاوية الكوفة وبايعه الناس، وكتب الحسن إلى قيس بن سعد، وهو على مقدمته فى اثنى عشر ألفاً يأمره بالدخول فى طاعة معاوية، فقام قيس فى الناس فقال: أيها الناس اختاروا، الدخول فى طاعة إمام ضلالة، أو القتال مع غير إمام. فقال بعضهم: بل نختار الدخول فى طاعة إمام ضلالة. فبايعوا معاوية أيضاً. فانصرف قيس فيمن تبعه، ثم تصالح مع معاوية بعد ذلك». وقد جُوبه تنازل «الحسن» عن الخلافة بمعارضة شديدة من المحيطين به، فخرج إليهم وخطب فيهم -كما يحكى ابن قتيبة صاحب كتاب الإمامة والسياسة- وقال: «أيها الناس إن الله هدى أولكم بأولنا، وحقن دماءكم بآخرنا، وكان لى فى رقابكم بيعة تحاربون من حاربت وتسالمون من سالمت، وقد سالمت معاوية وبايعته فبايعوه، وإن أدرى لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين، وأشار إلى معاوية». ويكاد يكون النص السابق هو النص التأسيسى لمفهوم قدرية الحاكم الظالم، وأنه ربما يكون فتنة أو عقاباً من الله، وأن على الناس أن يصبروا عليه، لأن الخروج عليه يمكن أن يؤدى إلى مقتلة أعظم، يجب على المسلمين أن يتجنبوها بالسكوت على ظلم الحاكم. وقد كانت النظرة القدرية حاضرة بقوة فى تفكير الحسن بن على رضى الله عنهما وهو يتنازل عن الخلافة لمعاوية، ويشير صاحب الإمامة والسياسة إلى أن «سليمان بن صرد» دخل على الحسن فقال له: السلام عليك يا مذل المؤمنين، وسأله كيف تنازل عن الخلافة ووراءه مائة ألف من العراق غير من يؤيده من أهل البصرة والحجاز؟ فرد عليه الحسن رداً طويلاً، من أبرز ما جاء فيه «أشهد الله وإياكم أنى لم أرد بما رأيتم إلا حقن دمائكم، وإصلاح ذات بينكم، فاتقوا الله وارضوا بقضاء الله وسلموا الأمر لله، والزموا بيوتكم، وكفوا أيديكم، حتى يستريح بر، أو يستراح من فاجر، مع أن أبى كان يحدثنى أن معاوية سيلى الأمر، فوالله لو سرنا إليه بالجبال والشجر ما شككت أنه سيظهر، إن الله لا معقب لحكمه، فوالله لأن تذلوا وتعافوا أحب إلىَّ من أن تعزوا وتقتلوا».