ربما لم تُنسب تسميةٌ كنايةً عن الظلم فى التاريخ العربى كله مثلما نُسبت هذه العبارة إلى ذلك الوزير المظلوم.. وما زالت تجرى على ألسنة المصريين فى حياتهم اليومية وعبر أجيال طويلة منذ قرابة الألف سنة. لا أعتقد أن كثيرين قد اهتموا برفع الظلم عن هذا الرجل، وزير صلاح الدين الأيوبى الوفى.. وأحد كبار المهندسين والبنائين فى تاريخ الإسلام.. إنه الأمير بهاء الدين عبدالله الأسدى.. أو بهاء الدين قراقوش. الغلام المملوكى الذى جىء به من أسواق النخاسة، من أصل تركى.. ألحق بمماليك أسد الدين شيركوه وقتما كان يعمل هو وأخوه نجم الدين أيوب فى خدمة السلطان عماد الدين زنكى بالشام، أسلم على يد سيده «أسد الدين».. وأصبح بعد ذلك من كبار أمرائه.. ولما أرسل نور الدين محمود قائده أسد الدين شيركوه بجيشه إلى مصر بناء على طلب آخر الملوك الفاطميين بها، أتى إلى مصر بصحبة ابن أخيه «صلاح الدين».. كان معهما «قراقوش»، بعد أن أصبح قائداً عسكرياً كبيراً، وحين توفى «نور الدين» فى دمشق.. والخليفة العاضد -آخر خلفاء الفاطميين فى مصر- آلت بعدها مصر والشام لحكم صلاح الدين الأيوبى. لقد برز «قراقوش» وتميَّز عن جميع أمراء «صلاح الدين» فى وقت قصير، فكان دوره كبيراً فى السيطرة على حالة الفوضى التى عمَّت مصر بعد موت الخليفة العاضد ومحاولة بعض رجاله الدخول فى صدام مع «صلاح الدين» لبقاء مصر تحت راية الفاطميين.. لكن «قراقوش» تمكن من السيطرة على الموقف.. وسيطر على ثروة الخليفة فى القصر الفاطمى التى لم تكن تتوافر لأى ملك من ملوك الدنيا من قبل! كانت ظروف المرحلة تفرض على «صلاح الدين» أن تتجه أغلب جهوده فى إعداد الدولة لخوض الحرب ضد الصليبيين الذين كانوا يحتلون بيت المقدس وقتها، فتوسعت الدولة فى بناء القلاع والحصون.. فعهد «صلاح الدين» إلى «قراقوش» الإشراف عليها، وكان مشهوراً بصبره وعزيمته الفولاذية التى لا تلين، إضافةً إلى مواهبه الهندسية التى كشفت عنها أعماله. والطريف أن أول عمل عظيم قام به «قراقوش» هو بناء «قلعة الجبل»، تلك القلعة التى اختار لها مكاناً على جزء مرتفع من الأرض منفصل عن جبل المقطم بالقاهرة، وتشرف على القاهرة كلها، وكانت مقراً للحكم فى مصر لقرون عديدة.. قلعة صلاح الدين! والغريب أن كل هذا التراث المغلوط من السمعة السيئة؛ التى تدلُّ على البطش والاستبداد سببها كتاب وضعه أحد الموتورين من منافسى «قراقوش» وخصومه الحاقدين فى عصره وهو ابن مماتى؛ الذى كتب عنه كتاب: (الفاشوش فى معرفة أخبار قراقوش)، وملأه بالادعاءات الظالمة التى نسبها إلى الأمير «قراقوش»، وسرعان ما انتشرت على ألسنة العامة داخل وخارج مصر، ووصفه بالغفلة والبطش.. وما أبعد كل تلك الاتهامات عن الحقيقة.. لقد كان «قراقوش» عادلاً تقياً.. وتوفى بالقاهرة عام 1201 ميلادية.. بعد أن ترك قلعة تشهد بكفاءته حتى الآن.. وإن نسى الناس أنه هو من بناها! وللحديث بقية ما دام فى العمر بقية!