البروفيسور أكمل الدين إحسان أوغلو، الأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامى، ليس مجرد شخصية دولية مرموقة فى الدبلوماسية العالمية باعتباره الرجل الذى أعاد إحياء ثانى أكبر منظمة دولية بعد الأممالمتحدة، لكنه عالِم بمعنى الكلمة تحمل سيرته العلمية الكثير من الدراسات والأبحاث.. مصرى المولد ويتحدث العربية بطلاقة ولعب دوراً محورياً فى استعادة طابا عندما أهدى لمصر خرائط من الأرشيف العثمانى.. تركى الوطن والجنسية ويتحدث الفارسية والفرنسية.. فعندما تحاوره عليك أن تدرك أنك أمام رجل موسوعى.. وفى حوارنا معه أثناء زيارته لواشنطن تحدث عن جميع القضايا محل الساعة فى العالم الإسلامى.. الأحداث فى تركيا، والتهديد المائى لمصر والسودان والصراع بين السنه والشيعة.. معلناً أن الثورات العربية ليست ربيعاً ولكنها خريف للطغاة.. وإلى تفاصيل الحوار.. * بعد عامين من الثورات العربية وما شهدته من تحولات، هل ترى أن تسمية «الربيع العربى» مازالت مناسبة لهذه الثورات؟ - كنت أول من انتقد تسمية هذه الثورات بالربيع، بل وسميتها «خريف الطغاة» وليس ربيعاً، وكلمة الربيع تعبير خاطئ. * لماذا سميتها «خريف الطغاة»؟ - لأن الذى حدث هو عبارة عن إسقاط الطغاة والأنظمة الاستبدادية، هذه الانتفاضات أو الثورات أو الفورات لم تأتِ بربيع، ولكنها أسقطت رؤوس الأنظمة، إذن كانت خريفاً للطغاة، أما الربيع فهذا معنى آخر لأنه يعبر عن مجىء مناخ رائع يعكس سعادة الناس واعتدال الأمور لأنهم يعيشون الربيع، أما نحن، فما نعيشه الآن خريف طويل، سيعقبه شتاء سياسى قاسٍ وليس سهلاً، وبعد هذا المخاض يأتى الربيع، أى عندما تتحوّل هذه الدول إلى أنظمة ديمقراطية بعد أن أسقطت الأنظمة الاستبدادية، عندما يحدث هذا التحول نستطيع أن نقول إننا نعيش فى الربيع، عندما تصبح هناك دساتير عصرية تعبر عن قيم المجتمعات الديمقراطية المتقدمة وتداول للسلطة عبر انتخابات نزيهة وشفافة، ويكون هناك أحزاب تعبّر عن مختلف الاتجاهات ويصبح هناك تقدُّم اقتصادى ونمو اجتماعى يُنهى التشرذُم والتخلُّف والفقر، فسيكون هناك ربيع، أما ما تمر به الآن دول الثورات فليس ربيعاً، ومن خداع الناس وخداع العقول أن نقول لهم إنه ربيع. * هل ترى أن ما تشهده دول المنطقة العربية وجميعها أعضاء فى منظمة التعاون الإسلامى هو حالة «الفوضى الخلاقة» لرسم الشرق الأوسط الجديد الذى تحدثت عنه إدارة الرئيس الأمريكى السابق جورج بوش؟ - الشرق الأوسط الكبير هو تعبير غير محدّد المعالم، وظهر له الكثير من التعريفات السياسية والجغرافية، وهل يقصد به المنطقة الواقعة من المغرب إلى أفغانستان أم ماذا؟، لا شك أن التعبيرات الشمولية هذه لا تعبر بدقة عن واقع الشعوب، فهناك مثلاً فرق بين ما يحدث فى تونس وما يحدث فى ليبيا، وهما بلدان ملتصقان، وبين ما يحدث فى مصر أو ما يحدث فى سوريا وهكذا، لذا فوضع كل شىء فى سلة تصنيف واحدة يعد أمراً خاطئاً، أما الفوضى الخلاقة فهذا تعبير محزن، لأنه كيف تكون الفوضى خلاقة؟.. الفوضى عبارة عن تدمير وضياع النظام ومرحلة إلى العدم لا إلى الوجود، فالفوضى لا يمكن أن تكون خلاقة إلا إذا كان هناك مشروع من ورائها. * على مدار 10 سنوات حاولت مراراً إصلاح منظمة المؤتمر الإسلامى التى أصبحت منظمة التعاون الإسلامى، هل تغيير المسمى يكفى لكى تكون هذه المنظمة بحق ثانى أكبر منظمة دولية بعد الأممالمتحدة، وتدافع عن قضايا العالم الإسلامى فى ظل الأوضاع الدولية الراهنة؟ - أولاً العملية لم تكن مجرد تغيير مسمى، لكنها كانت إصلاحاً هيكلياً جذرياً وجوهرياً بمعنى أن تغيير الاسم جاء بعد مدة طويلة من تغيير الجسم نفسه والمحتوى والمضمون للمنظمة من الألف إلى الياء، بمعنى جرى خلق كوادر لم يكن هناك سوى سفير واحد عندما دخلت المنظمة والآن أصبح هناك العديد من السفراء أصحاب الخبرات الدولية، والدرجات العلمية الرفيعة، كما حدث تغيير فى أسلوب العمل وثقافته، أى أنها كانت مجرد منظمة لعقد مؤتمرات وسكرتارية صغيرة لعقد مؤتمرات، وكل 3 سنوات تعقد قمة وهكذا، أما الآن فقد أصبحت منظمة دولية للتعاون بين دولها فى المجالات والقضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وفى الكثير من المسائل المتنوعة مثل قضايا المرأة والشباب والعلوم والتكنولوجيا، وأصبحت هناك آليات مختلفة وأنشئت مراكز متعددة وفروع كثيرة ومكاتب إقليمية ودولية، وأهم شىء تمكنا منه هو خلق ميثاق جديد يعبر عن القيم العالمية من ديمقراطية والإدارة أو الحكم الرشيد والشفافية والمساواة وحقوق المرأة ومحاربة والقضاء على الفساد، وفى لقاءاتى هنا فى واشنطن مع أعضاء الكونجرس أو مراكز الأبحاث أو المنظمات الحقوقية، الكل يتحدث عن أهمية التقدم الذى أحرزته المنظمة، ويتساءل عن مستقبل هذا التطور، وأقول إن عملية الإصلاح يجب أن تستمر، وهذا ما أتمناه مستقبلاً. * على مدار السنوات الماضية، عملت على وأد الصراع السنى - الشيعى فى العالم الإسلامى وتمكنت من احتوائه بالفعل، الآن عادت من جديد مراكز الأبحاث الدولية تتحدث عن هذا الصراع، وأنه الصراع المقبل فى الشرق الأوسط.. كيف ترى هذا الأمر؟ - فى غاية الخطورة، وأود أن أشير هنا إلى تجربة كانت عام 2006 فى خضم الحرب على أفغانستان والعراق، وحدث اقتتال طائفى، وكانت هناك محاولات عديدة من مختلف المنظمات للمساهمة فى تحقيق الاستقرار، ونحن أجرينا دراسة عن عوامل الصراع، وأخذنا عنصراً واحداً لمعالجته، وهو العنصر الدينى الذى يتمثل فى الصراع بين السنة والشيعة، ودعونا مجموعة من العلماء تحت مظلة مجمع الفقه الإسلامى التابع للمنظمة، وأقنعنا الزعماء الدينيين للسنة والشيعة بحضور هذا المؤتمر، وكان الأمر صعباً، لأنهم كانوا يرفضون اللقاء وجهاً لوجه، لدرجة أنهم رفضوا أن يستقلوا نفس الطائرة، لكننا فى النهاية تمكنّا من جمعهم، ووقعت اتفاقية من 10 بنود فى مكةالمكرمة، وأعلنا هذه الوثيقة من هناك أمام العالم، وفى نفس اللحظة بارك شيخ الأزهر هذا الاتفاق، و«خامنئى» أيضاً، وكل الزعمات الروحانية، وحدث بالفعل معالجة للموقف وعادوا فى نفس الطائرة وبدأت علاقات مشتركة بينهم بموجب هذه الوثيقة، وفى عام 2007 ذهبت إلى بغداد وجدت المؤسستين الكبار، وهما مؤسسة الوقف السنى والوقف الشيعى العلاقة بينهما زى ما بيقولوا فى مصر «سمن على عسل»، واستمر هذا الحال حتى 2011، أما ما يحدث الآن فهو ليس مشكلاً دينياً ولكنه مشكل سياسى، وأن تأتى وتستخدم المذهبية درعاً للعمل السياسى لضرب خصومك ومعارضتك السياسية فهذا هو المشكل وينجر فى كل الطرفين أتباع هذا المذهب ضد الآخر.. هذه هى الكارثة. * هل ترى أن هذا الأمر مقصور على العراق أم أن استخدام الدين فى السياسة أصبح نموذجاً فى المنطقة؟ - هناك محاولات لنشر هذا النموذج فى المنطقة، ويجب أن نقف ضد هذا، مثلاً ما حدث فى سوريا على مدار عامين وأكثر، هناك فى الطرفين المتقاتلين طوائف مختلفة يعنى فى طرف الحكومة كان هناك سنة ومازال، وفى طرف المعارضة كان هناك شيعة ومازال، الآن عندما تذهب إلى منطقة مثل القصير وتتحدث كسنة وشيعة، إذن نحن فى خطر كبير، وأضفنا إلى نار الحرب فى سوريا وقوداً وزيتاً منفجراً، وللأسف الشديد نحن الآن فى مرحلة حرجة ويجب أن نتعامل معها بدقة ولا نساعد فى تأزيم الوضع وزيادة اشتعال النار. * لماذا دائماً ما تظهر المنظمة بطابع دينى وليس دولياً يعبر عن كل الأطياف التى يضمها النسيج المجتمعى للدول الأعضاء؟ - لا أعتقد ذلك، المنظمة دولية بمعنى الكلمة وتشخيصها على كونها منظمة دينية تشخيص خاطئ، كل نشاطنا سياسى، والمصالحة الأولى بين فتح وحماس عام 2006 كانت عملاً سياسياً، والعمل فى الصومال وأفغانستان وغزة سياسى وإنسانى، وفى موريتانيا المنظمة أسهمت بشكل كبير فى حل المشكل السياسى، وفى النيجر ومالى الآن مبعوث خاص للأمين العام لمنظمة التعاون الإسلامى، وهو وزير خارجية بوركينا فاسو، وله دور رئيسى فى معالجة الوضع هناك. * القدس والقضية الفلسطينية، هل تعتقد أن الثورات العربية أو «خريف الطغاة» كما سميته التهم اهتمام العالم الإسلامى بقضيته المركزية؟ وما عواقب ذلك؟ - أعتقد أن هذا السؤال يعبر عن وضع حالى نعيش فيه، هناك انكفاء داخلى فى الكثير من القضايا داخل العديد من البلدان، ويجب ألا ننسى منذ بداية حركات الانتفاض من تونس إلى اليوم لم تظهر فى أى حركة، وفى الشارع شعار واحد يتعلق بفلسطين أو القدس. * ما تفسيرك؟ - فى تقديرى أنه أولاً التحول الديمقراطى الذى لم يحدث بعد يحمل نقطتين، إحداهما لصالح إسرائيل والأخرى لصالح فلسطين، بالنسبة إلى إسرائيل فإن أى حكومة ديمقراطية لن تعلن الحرب عليها، لأن القرار فيها يؤخذ بشكل مؤسسى، وهذا لصالح إسرائيل ولاستقرار المنطقة، أما النقطة الأخرى التى هى فى صالح فلسطين والقضية الفلسطينية، فإن هذه الحكومات الديمقراطية ستسعى لإرضاء الشعب والكتل السياسية، ومن ثم تعبر عن نفسها بشكل جدى لتحظى بثقة الناخبين، وستسعى لخدمة القضية الفلسطينية دون مجرد كلام أو شعارات، كما كان يحدث فى السابق. * لماذا تزور واشنطن؟ - هذه الزيارة الهدف منها لقاء بعض أعضاء الكونجرس وعدد من منظمات المجتمع المدنى ومراكز الأبحاث وبيوت التفكير، والشخصيات المهتمة بحقوق الإنسان والحريات الدينية والتحدُّث حول الإسلاموفوبيا والعلاقات بين العالم الإسلامى والغرب والولاياتالمتحدة، وطبعاً مسألة «ميانمار». * كيف تكون هناك علاقات سليمة بين العالم الإسلامى والولاياتالمتحدة؟ - تذكر أننى يوم تنصيب الرئيس باراك أوباما نشرت رسالة فى «الهيرالد تريبيون»، و«نيويورك تايمز» تحت عنوان رسالة إلى الرئيس الأمريكى المنتخب، ووضعت فيها أفكار العالم الإسلامى ومطالبه، وأنه يريد إقامة علاقة جديدة بعد توتر شديد فى فترة الرئيس بوش الابن، وأنه يجب أن تكون هذه العلاقة مبنية على الاحترام المتبادل والمصالح المتبادلة، فالعالم الإسلامى يشكل كتلة كبيرة أكثر من مليار ونصف المليار من البشر و57 دولة من أعضاء الأممالمتحدة، و4 دول إسلامية فى مجلس الأمن و3 دول فى مجموعة العشرين وهذا العدد سيزيد، إذن العالم الإسلامى رغم كل ما نعيشه فى دول «خريف الطغاة» لا شك أنه بعد مدة ستسكن هذه الاضطرابات، وسيستتب الأمر، وستبدأ هذه الدول فى النمو الاقتصادى من جديد وبمعدلات أكبر، لأنه سيكون هناك حرية أكبر ومحاربة للفساد، إذن على المدى الطويل العالم الإسلامى سيأخذ مكانه، ولا تنسَ أن العالم الآن يمر بمرحلة تحوّل ومركز الثقل لن يستمر طويلاً فى الأطلنطى، ولكن سيكون فى آسيا، والجانب الآسيوى هو الأكبر فى العالم الإسلامى جغرافياً وسكانياً واقتصادياً، إذن فمنافع أمريكا القادمة ستكون مع العالم الإسلامى الذى يجب أن يدرك حجمه وقوته وإمكانياته فى تعامله مع الولاياتالمتحدة، من خلال منظمة التعاون الإسلامى، لأن أى دولة لو تعاملت بطريقة منفردة، فسيكون تأثيرها محدوداً. * كيف تنظر إلى التهديد الوجودى الذى تتعرّض له مصر والسودان فى مسألة مياه النيل؟ - أمر خطير، وأتابع بدقة وبقلق هذه التطورات، وأعتقد أنه يجب أن يكون بين الأطراف الداخلة فى هذا الملف أى بين الأطراف الثلاثة «مصر والسودان وإثيوبيا» تسوية سلمية، مبنية على اعتبارات سليمة بمعنى أن الاتفاقات موجودة وعلى المصالح المتبادلة يجب احترامها، لكن بطبيعة الحال فإن المنظمة ستكون فى موقف متضامن مع دولها، وهى مصر والسودان فى هذا الأمر، وسنؤدى الدور الذى ترتبه علينا مسئوليتنا فى هذا الملف. * معروف أن للمنظمة وجوداً حيوياً فى أفريقيا، هل طلبت مصر والسودان المساعدة من المنظمة فى هذا الملف وفق تحرك دبلوماسى معين؟ - حتى الآن لم يصلنا أى شىء. * كيف تقيّم الأحداث المتصاعدة فى تركيا؟ - أتابعها.. وأعتقد أنه كان هناك استخدام للقوة مبالغ فيه، وما كان يجب للشرطة أن تتدخل بهذه الخشونة، لأن المطالب مشروعة، ولكن المشكلة دائما تجد من يندس بين أصحاب المشروعية، والذين لهم أغراض سياسية، وما يحدث أمر غير طبيعى ولا يليق بتركيا هذا المشهد.